تنبيه: كتاباتي قد تسبب إدمانًا!⚠️

الروايات تُنشر على حلقات – تابعنا يوميًا للحصول على جديد الحلقات!

الحلقة الأولى من كتاب الكنوز

كتاب الكنوز


رواية التشويق والإثارة المميزة للكاتب إسلام عبدالله

(البداية)

عندما تجتمعُ القداسةُ والحداثةُ، ويختلطُ العلمُ بالخيالِ، ونستَطردُ المستقبلَ من سَردِ الماضي فتنسجُ لنا الطبيعةُ القُصاصاتِ والحكاياتِ، ونستلهمُ الأنغامَ والأحكامَ من عوالمِ الأحلامِ.

هذا ما ستجدُهُ بداخلِ “الغولِ والعنقاءِ والخِلِّ الوفيِّ”.

فخلالَ مطالعتِكَ لتلكَ التجربةِ الجديدةِ الفريدةِ المُستمدةِ من عبقِ التاريخِ ودروسِ الماضي، فستجدُ بينَ طياتِ تلكَ الروايةِ بكلِّ تأكيدٍ الكثيرَ والكثيرَ من الاستمتاعِ والانتفاعِ معًا.

فهيا بنا نُبحرُ ونغوصُ بينَ طياتِ العالمِ القديمِ بفُلكِ العالمِ الحديثِ، ولهذا فلتطرحْ كلَّ شيءٍ بخَلَدِكَ بعيدًا عنكَ الآنَ، ولتُعطِني تركيزَكَ الكاملَ وخيالَكَ الشاملَ، لتعيشَ بينَ أحداثِ الروايةِ وتُشاركْ أبطالَها مصيرَهم المجهولَ، بجوٍّ من الإثارةِ والتشويقِ لن تجدَهُ عندَ كاتبٍ آخرَ سواي.

إسلام عبد الله

“من رابعِ المستحيلاتِ..” مقولةٌ نُطلقُها دائمًا للتحدثِ عن صعوبةِ حدوثِ شيءٍ لدرجةِ الاستحالةِ، ويُقالُ “رابعُ المستحيلاتِ” عادةً لأنَّ العربَ قديمًا كانوا يُجمعونَ على استحالةِ وجودِ ثلاثةِ أشياءَ وهم: الغولُ، والعنقاءُ، والخِلُّ الوفيُّ.


تمهيد..

أعلمْ أيُّها الأخُ البارُّ الرحيمُ أيَّدكَ اللهُ وإيَّانا بروحٍ منهُ..

بما أنَّ الإنسانَ لمَّا كانَ هو جملةً مجموعةً من جسدٍ جسمانيٍّ ونفسٍ روحانيةٍ وهما جوهرانِ متباينانِ في الصفاتِ، مُتضادَّانِ في الأحوالِ، ومُشتركانِ في الأفعالِ العارضةِ والصفاتِ الزائلةِ، صارَ الإنسانُ من أجلِ جسدِهِ الجسمانيِّ مُريدًا للبقاءِ في الدنيا مُتمنيًا الخلودَ فيها، ومن أجلِ نفسِهِ الروحانيةِ صارَ طالبًا للدارِ الآخرةِ مُتمنيًا البلوغَ إليها.

وهكذا أكثرُ أمورِ الإنسانِ وتصرفاتِهِ أحوالٌ مثنويةٌ، مُتضادَّةٌ كالحياةِ والمماتِ والنومِ واليقظةِ والعلمِ والجهالةِ والتذكرِ والغفلةِ والعقلِ والحماقةِ والمرضِ والصحةِ والفجورِ والعفةِ والبخلِ والسخاءِ والجبنِ والشجاعةِ والألمِ واللذةِ وهو مُترددٌ بينَ الصداقةِ والعداوةِ والفقرِ والغنى والشبيبةِ والهرمِ والخوفِ والرجاءِ والصدقِ والكذبِ والحقِّ والباطلِ والصوابِ والخطأِ والخيرِ والشرِّ والقبحِ والحسنِ وما شاكلَها من الأخلاقِ والأفعالِ.

لهذا لا تحزنْ ولا تبتئسْ فأنتَ مُسَيَّرٌ فيما أنتَ بهِ مُخيَّرٌ، ولكَ حُسنُ التفكيرِ وعلى اللهِ التدبيرُ.

****

(الفصل الأول)

الزمان: منذ ثلاثة أشهر..

المكان: بأحد المناطق الصحراوية بمكان ما من الخليج العربي..

الحدث: مجموعة مكونة من أربعة مستكشفين يسيرون بصعوبة شديدة وسط الرياح التي تعصف بالرمال بقوة فتلسعهم ضاربة أجسادهم من كل حدب وصوب، ولا يحميهم من غضب الصحراء العاصف بزفيرها الحار المحمل بالرياح والرمال سوى ملابسهم البدوية التي تغطي أنحاء جسدهم كله في محاولة ضئيلة لمواجهة صفعات الصحراء الغير مُرحبة بوجودهم فوق أرضها.

فرد من المجموعة لم يستطعْ مواجهة غضب الطبيعة ذاك فسقط أرضًا بالتوِّ، فحاول اثنان من المرافقين له أن يساعدوه على النهوض، بينما استمر الشخص الرابع بالتقدم أمامهم وهو ينظر للباقين يساعدون زميلهم خلفه ولكنه لا يُعيرهم أيَّ اهتمامٍ وأكمل طريقه. الفرد الذي سقط يقف بمساعدة زميليه أخيرًا ويتحرك مع باقي المجموعة يتتبعون خُطى قائدهم الغير مهتم إطلاقًا بوجودهم خلفه.

في وقت آخر من الليل، أسفل نجوم السماء المتلألئة، جلس الأربعة بمخيم أمام النيران وهم يتناولون أطراف الحديث ويتضاحكون، ما عدا قائدهم الذي كان ينظر إلى خريطة أمامه باهتمام شديد.

بظهيرة اليوم الثامن لرحلتهم بداخل الصحراء، جلس أحد المستكشفين على الأرض وهو يضع سماعة أذن فوق رأسه وهو يستمع إلى موسيقى صاخبة باستمتاع وهو يقوم بإزاحة التراب من فوق شيء ما أمامه.

اثنان من المستكشفين يحفران بحرص شديد برمال الصحراء، خلف المستكشف الأول.

فجأةً تخترق المكان سيارة دفع رباعي ويقف المستكشفان يصرخان على سائقها بأن لا يتقدم بالإنجليزية: “توقف.. توقف”

يهبط من السيارة شخص يرتدي حُلَّةً سوداء غير مناسبة لجوِّ الصحراء إطلاقًا ولهذا كانت ملابسه وحذاؤه مُعفَّرَيْنِ بالأتربة، ويبدو عليه الضيق الشديد. تحرك المستكشفان جهته وهم يشيرون إلى الأرض ورائهم ويحذرونه بأن لا يتقدم جهة الأرض الممتلئة بالحفريات خلفهم، على الفور أخرج الرجل سلاحه الناري وأطلق على رؤوسهم النار بسرعة.

سقط المستكشفان على الفور أرضًا مُضرَّجينِ بالدماء.

تحرك الرجل بحذائه المُعفَّر وهو يحاول أن يتفادى أجساد المستكشفين وهي مُمدَّة على الأرض ويحاول أن يتخطى دمائهم وهو يتقدم جهة المستكشف الثالث الذي كان يضع السماعة فوق أذنه وهو يمسح الرمال أسفله بفرشاة فظهر أمامه لوح طيني أثري من أسفل الرمال، فصرخ فرحًا وهو سعيد للغاية: “لقد وجدنا المدينة المفقودة.. لقد وجدناها.. إن الكتاب صحيح”.

نزع السماعات من فوق أذنه على الفور والتفت خلفه وهو فرحًا لينادي على أصدقائه ولكنه وجد فوهة مسدس مُصوَّبة لرأسه، ومن ثم شعر برصاصة تخترق جمجمته وتحطم دماغه.

*****

الزمان: منذ ثلاثة أيام..

المكان: شوارع القاهرة..

الحدث: مطاردة شرسة بطرقات وأحياء القاهرة، بطلها حازم منصور الذي يركض بعنفٍ مُتعرِّقًا وهو يضع هاتفه على أذنه ويتحدث بصوتٍ عالٍ: “أينَ يا حياة؟ أنا في ذلك المكان حاليًا.. أخبريني بسرعة.. أين آخر مكان كان يتواجد به؟” نظر حازم حوله بتَمَعُّنٍ شديدٍ: “أين؟.. أين هو؟.. أنا لا أراه.. ماذا!! أفقده؟!.. كيف سأفقده؟.. ورحمة والدي لن أتركه أبدًا..” نظر على يمينه للحظات، ثم نظر أمامه فجأةً وهو يبتسم بخُبثٍ شديدٍ: “لا تقلقي يا حياة.. لقد وجدته.. هل كان يعتقد لوهلةٍ أنه يستطيع الهرب مني؟” أغلق الهاتف سريعًا ووضعه بجيبه وركض بعزمٍ شديدٍ بين الشوارع والطرقات، حتى وقف أمام شارع هادئ فابتسم بثقةٍ وهو يمسح عرقَهُ من فوق جبهته.

أثناء ذلك الوقت كان بداخل الشارع الهادئ ثلاثة شباب مراهقين تتراوح أعمارهم ما بين الخامسة عشرة والسابعة عشرة، يقفون بجانب سيارتهم الفارهة التي كانت مُصطدمة بسيارة قديمة مُتهالكة، ويُمسك أحدهم رجلًا عجوزًا بالعقد الخامس من عمره من ملابسه ويُعنِّفُهُ بشدةٍ: “ما هذا الذي فعلته؟! هل أنت أعمى لا ترى!! أنظر ماذا فعلت بسيارتي!”

العجوز يتحدث إليهم بخوفٍ: “من العيب عليك أن تقبض بملابسي هكذا يا بُنيّ.. أنا في سنِّ أبيك!!”

الشاب يُعنِّفُهُ بغِلْظَةٍ وهو يُضيِّقُ عليه خِناقَهُ: “دعكَ من أبيك.. وعمِّك.. وهذا الحديث الذي بلا طائل، أنا لن أترككَ هذا اليوم إلا عندما تُصلح سيارتي، والآن.”

العجوز يحاول تخليص ملابسه من الشباب فلا يستطيع بعد أن تكاثروا عليه: “أتركوني.. أتركوني جميعًا ألا ترون أني رجل كبير؟.. ألا يوجد من يُنقذني أيها الناس؟!!”

لم يُنهِ العجوز جملته حتى سمع صوت حازم وهو يصرخ عليهم ويتقدم من داخل الشارع جهتهم: “أنتم، توقفوا عما تفعلونه بالحال!!”

نظر المراهقون إلى حازم الذي ظهر أمامهم فجأةً وهو مُتعرِّقٌ وجسده مُتضخِّمٌ ونظر لهم بِشَزَرٍ، فدبَّ الخوفُ في قلوبهم من رؤيته، فتركوا العجوز بالحال، الذي تهلَّلتْ أساريرُهُ من ظهور حازم المفاجئ. تقدم حازم جهتهم ببطءٍ وبثقةٍ شديدةٍ، فبدت ملامحُ الخوفِ على وجوهِ المراهقين أكثرَ فأكثرَ، وتعالتْ ضحكاتُ العجوزِ الفرحةُ أيضًا أكثرَ فأكثرَ. تقدم حازم إلى الشباب بعزمٍ كبيرٍ ظاهرٍ على وجهه، فتراجع الشبابُ المراهقون للخلفِ بِقَلَقٍ، وقامَ بعضُهم بابتلاعِ ريقِهِ مُتوترًا، بينما اعتلتْ ابتسامةٌ كبيرةٌ وجهَ العجوزِ. وقف حازم بين المراهقين وبين الرجل العجوز وهو ينظر لهم نظراتٍ ناريةً، فتراجع المراهقون أكثرَ للخلفِ وهم خائفون من ردَّةِ فعلهِ، وظلَّ العجوزُ ينظرُ إلى مُخلِّصِهِ الملائكيِّ الذي ظهرَ أمامهُ فجأةً وهو يشعرُ بالسعادةِ. فجأةً قام حازم بدفعهِ بكلتا يديهِ برفقٍ: “لو سمحت فلتتراجع قليلًا إلى الوراءِ أيها الحاج.”

فتراجع العجوزُ للخلفِ على الفورِ، نظر حازم للمراهقين بغضبٍ وهو يقومُ بالكشفِ عن ساعدِهِ، فتراجع المراهقون للخلفِ قليلًا وهم يبتلعونَ ريقَهم وهم يرقبونَ ردَّةَ فعلِهِ. فجأةً تركهم حازم واتجه ناحية السيارة وجثا على رُكبتِهِ.. وأخذ يتحدث بلهجةٍ طفوليةٍ وهو يمدُّ يدهُ أسفلَها: “بودي.. بودي.. أنتِ بطَّةٌ.. أنتِ قِطَّةٌ.. هيا تعالي لا تخافي.. لا تخافي يا بطوطتي.”

أخذ العجوزُ ينظرُ لحازم مُندهشًا، بينما المراهقون ظلوا ينظرون إلى بعضهم البعض مُتعجبين من فعلِ حازم، الذي لم يُعرهم أيَّ اهتمامٍ وظلَّ يتحدث بلهجةٍ طفوليةٍ وهو يمدُّ جسدهُ بالكاملِ على الأرضِ أسفلَ السيارةِ. “حبيبةُ ماما.. هيا تعالي.. تعالي يا بطوطتي.”

وبالنهايةِ تحرك حازم من أسفلِ السيارةِ وهو يحملُ بين يديهِ كلبَ “لولو” فرنسيًّا أبيضَ اللونِ، وهو يُداعبهُ ويُحدِّثُهُ بلطفٍ: “أخيرًا.. أخيرًا، أمسكتُكِ يا بطوطةُ أنتِ.. لقد أرهقتِني معكِ.”

نظر حازم فجأةً حوله ليجدَ العجوزَ والمراهقين ينظرون إليهِ مُندهشين، فابتسم إليهم وأخذ يُحدِّثُهُمْ سريعًا: “أتأسف لو كنتُ قد قاطعتُكم.. أنا انتهيتُ والحمدُ للهِ.. فلتُكملوا عِراكَكُمْ مع بعضِكُمْ كما تُحبُّونَ، عن إذنِكُمْ.” غادر حازم وهو يُداعبُ الكلبَ بينَ يديهِ، بينما أخذ المراهقون يُراقبونهُ مُتعجبين، والعجوزُ يفركُ رأسَهُ بأُصبعهِ مُستغربًا.

*****

جلس حازم بداخل سيارة أجرة ومعه الكلب يحمله بين يديه ويداعبه، وقام على الفور بتصوير نفسه صورة ذاتية أمامية “سيلفي” ومعه الكلب يقوم بلعق وجهه. أخذ ينظر له سائق سيارة الأجرة بمرآة السيارة بتقزُّزٍ شديدٍ. لاحظ حازم نظرات السائق له فشعر بالإحراج فوضع الكلب على المقعد بجواره وقام بالاتصال برقم من هاتفه، وهنا على الفور ارتسمت ابتسامة كبيرة على وجهه وهو يتحدث بالهاتف: “ألو.. مساء الخير يا مدام سميرة.. كيف حالكِ؟ هل شاهدتِ الحلوة روزي؟ لقد أرسلتُ لكِ صورتنا سيلفي معًا.. بالطبع، بالطبع.. أنا في طريقي إليكِ بالحالِ ومعي روزي.. بالطبع سوف أضع روزي بداخل عيوني حتى تعود إليكِ.. ولهذا أتمنى أن تُجهِّزي باقي المبلغ المتفق عليه.. بالضبط.. نعم بالضبط هذا هو المبلغ يا مدام.. في الطريق لحضرتكِ الآن.. في حفظ الله.. في حفظ الله.”

السائق ينظر له بالمرآة بضيقٍ: “من فضلك أبعد هذه الكلبة بعيدًا عن المقعد.. نحن لم نتفق في رحلتنا على وجود كلبٍ بداخل السيارة.”

حمل حازم الكلبة بين يديه وهو يتحدث إليها مبتسمًا: “حالًا.. سوف أحملها حالًا.”

أخذ حازم ينظر له بضيقٍ وهو يُحدِّثُ نفسه: “ماذا يظنُّ نفسه هذا السائق؟ هل اعتقد لأننا نشير إليه بكابتن بأنه كابتن بالفعل ويقود طائرة؟ ألا يعلم أنه سائقُ أجرةٍ لعينٍ؟ حسنًا بعد أن أنتهي من رحلتي سوف أُقيِّمُكَ بنجمةٍ واحدةٍ وأُقدِّمُ بكَ شكوى تُخرجُ النارَ من رأسِكَ، صبرًا جميلًا.” رنَّ هاتفهُ فالتقطهُ على الفورِ ووضعهُ على أُذنهِ مبتسمًا: “ألو.. يا حياة؟” يسمع صوتها تتحدث بالهاتف: “أخبرني ماذا فعلتَ يا سيد حازم؟” حازم بثقةٍ شديدةٍ: “ماذا تعتقدين يا حياة؟!! وجدتُ روزي بالفعل.. أنتِ تعلمين بالفعل أن أيَّ قضيةٍ يعمل عليها حازم منصور سوف يحلها بدون شك.. لكن لقد تعبتُ للغاية في هذه العملية يا حياة.”

نظر حازم إلى السائق أمامه بضيقٍ: “من أجل الإمساك بروزي لقد تعرض لي بعض الأغبياء والحمقى.” سمع صوت حياة وهي تضحك: “أفهم من حديثك هذا بأنك كنتَ سوف ترفض مبلغ مائة ألف جنيه، لأنك لا تريد أن تبحث عن كلب!! إذا رغبت يمكننا رفضُ تلك القضايا من الآن فصاعدًا.

” تغير وجه حازم بالحالِ: “أنا لا أعلم لماذا تتسرعين هكذا يا حياة، أنا لستُ معترضًا على المبدأ.. كلب.. قطة.. خروف.. عنزة أنا موافق.. طالما حضرت النقود فأنا سأكون بالتأكيد موجودًا، هذا هو شعاري.. ولكن أنا أريدُ تلك القضايا المثيرة المشوقة، خطف.. سرقة سيارات.. اختفاء.. أشياء من هذا القبيل.”

السائق ترك الطريق ونظر لحازم خلفه بقلقٍ: “خطف!! اللهم احفظنا.. اللهم احفظنا..” حازم ابتسم له سريعًا: “لا تقلق.. نحن نتحدث عن قصة فيلم مع بعضنا البعض.. إذا لم يكن عندك مانع.” سمع صوت حياة تحدثه متسائلةً: “سيد حازم.. أنتَ تتحدث مع من؟”

“لا تقلقي.. هذا كابتن الأوبر يُلقي أُذنهُ معنا قليلًا.”

السائق (يضيق): “أنا لا أُلقي أُذني معكم، أنتَ الذي لديك صوتكَ مرتفعٌ.” (مبتسمًا): “بالفعل أنا صوتي مرتفع، حسنًا يا حياة.. سوف أذهب لكي أُسلِّم روزي إلى صاحبتها ومن ثم سوف أُحدِّثُكِ فيما بعد.. إلى اللقاء.” حازم أغلق الهاتف سريعًا، فتحدث إليه السائق وهو ينظر له بالمرآة: “لماذا أغلقتَ مكالمتك!!، فلتُكملْ محادثتك كما تريد.”

ابتسم حازم على الفورِ: “لا.. لا أريد أن أُقلِقَ راحةَ بالِ حضرتك.. أنتَ كابتنُ مِلءِ الدنيا.. لا ينبغي إزعاجُكَ أبدًا.” السائق مسرورًا: “سلَّمكَ اللهُ من كلِّ شرٍّ.”

حازم علت وجهه ابتسامة صفراء: “أنتَ رجلٌ لم تنجبْهُ النساءُ..”

السائق: “أشكركَ..”

حازم: “ولا الرجالُ أيضًا.”

علت وجه السائق ابتسامة كبيرة: “أشكركَ.. أشكركَ.”

حازم مُحدِّثًا نفسه: “انتظر قليلًا، عندما تنتهي الرحلة واللهِ لأقومَنَّ بإرسال شكوى لك تجعلك تنسى اسمكَ وسِنَّكَ وعنوانكَ.” تنهد وهو يُداعبُ الكلبَ بيدهِ اليسرى: “كله يهونُ من أجلكِ أنتِ يا روزي.. تهربينَ وتركضينَ وتلعبينَ ونحنُ نبحثُ عنكِ ونتحملُ متاعبَكِ.” ويُقبِّلُ الكلبةَ بالنهايةِ فيعلقُ بعضُ شعرِها بفمهِ، فيبصقهُ بسرعةٍ شديدةٍ وبتقزُّزٍ شديدٍ.

******

الزمان: منذ سبعة أيام..

المكان: مدرسة نورمانهارست الثانوية للبنين، أستراليا..

الحدث: بداخل غرفة مدير المدرسة الكبيرة الواسعة، يجلس أحمد هارون بمفرده حزينًا مُطأطِئَ الرأسِ، وهو شابٌّ مراهقٌ بجسدٍ نحيلٍ، عمره ما بين الخامسة عشرة والسادسة عشرة. يرتدي بنطالًا وقميصًا رماديَّ اللونِ وكرافته حمراءَ وجاكتًا أزرقَ فوقهما، وأسفلَ شفتِهِ يوجدُ جرحٌ صغيرٌ وبعضُ الدماءِ، ويبدو من ملابسهِ المُبعثرةِ أنَّهُ خرجَ من عِراكٍ. جلسَ غاضبًا مُتجَهِّمًا وهو يتذكرُ بعضَ الأصواتِ المُختلطةِ لعدةِ أطفالٍ بداخلِ رأسهِ: .. “إنَّ والدهُ قاتلٌ..” .. “إنَّهُ من سُلالةِ عائلةٍ قاتلةٍ..” “والدهُ قتلَ أصدقاءَهُ..” “اخفضْ صوتَكَ حتى لا يسمعَنا ويقتلَنا نحنُ أيضًا..” “لقد كنتُ أعلمُ ذلكَ.. إنَّ اسمهُ أحمدُ..” ظلَّ الشابُّ يتذكرُ الأصواتَ برأسهِ وهو قابضٌ على يدهِ بغضبٍ شديدٍ.

دلفَ من بابِ الغرفةِ شخصٌ أجنبيٌّ عجوزٌ بالعقدِ الخامسِ من عمرهِ وجلسَ على المكتبِ أمامَ أحمدَ. تحاشى أحمدُ النظرَ إلى الرجلِ ونظرَ إلى اليافطةِ الموضوعةِ على المكتبِ ليقرأَ كلمةَ “مدير المدرسة” بالإنجليزيةِ. يُلاحظُ العجوزُ وجهَ أحمدَ المجروحَ أسفلَ فمهِ، فتنهدَ المديرُ للحظاتٍ وأخذَ يتحدثُ إلى أحمدَ بالإنجليزيةِ: .. “أنا أعلمُ أيُّها الشابُّ الصغيرُ أنَّكَ بوضعٍ غيرِ مُريحٍ الآنَ.. نظرًا لما يُواجهُ والدُكَ من بعضِ الظروفِ الاستثنائيةِ التي يمرُّ بها حاليًا.. واعلمْ بأنَّكَ تنزعجُ من بعضِ تصرفاتِ زملائِكَ الغيرِ مهذبةٍ.. ولكنْ لم يكنِ العنفُ هو الحلَّ أبدًا.”

ظلَّ يستمعُ إليهِ أحمدُ دونَ أنْ يتحدثَ، فتابعَ المديرُ حديثَهُ إليهِ: “أنا على الرغمِ من تفهُّمي وتعاطُفي الكاملِ معكَ لما تمرُّ بهِ من أحداثٍ جديدةٍ عليكَ.. ولكنْ لن أستطيعَ التغاضيَ عن مُعاقبتِكَ تلكَ المرةَ.. إنَّها المرةُ الثالثةُ التي تنتابُكَ نوبةُ غضبٍ بالمدرسةِ.. وأنتَ تعلمُ أنَّنا لا نتَهَاونُ معَ المُشاغبينَ.. وبما أنَّكَ كنتَ من الطلابِ المُتفوقينَ لدينا فسوفَ نكتفي بإيقافِكَ عن الحضورِ لمدةِ أسبوعٍ.. وقُمنا أيضًا باستدعاءِ السيدِ طارق الغنام صديقِ والدِكَ.”

أحمدُ غاضبًا: “ماذا؟.. لا يحقُّ لكَ فعلُ هذا..!” المدير: “بل لي كلُّ الحقِّ أيُّها الشابُّ الصغيرُ.. أنتَ طالبٌ بمدرسةِ نورمانهارست.. وبصفتي مديرَ المدرسةِ يجبُ أنْ أرعى مصالحَكَ.. بعدَ ظروفِ والدِكَ واختفائِهِ المُفاجئِ منذُ ثلاثةِ أشهرٍ.. أصبحَ لا يوجدُ من يرعاكَ.. وأيضًا هناكَ مصاريفُ دراسةٍ وخلافُهُ يجبُ أنْ تُدفعَ.. ووالدُكَ قد طلبَ منَّا في حالةِ حدوثِ أيِّ شيءٍ طارئٍ أنْ نتصلَ بالسيدِ طارق الغنام.”

صمتَ أحمدُ وخفضَ عينيهِ أرضًا، فتابعَ المديرُ الحديثَ إليهِ: “هيا الآنَ.. اذهبْ إلى العيادةِ لتُعالجَ جروحَكَ ومن ثمَّ انصرفْ إلى منزلِكَ وسوفَ أراكَ بعدَ أنْ تنتهيَ مُهلةُ مُعاقبتِكَ وتكونَ بصحبةِ السيدِ طارقٍ معكَ.” تحركَ أحمدُ إلى خارجِ الغرفةِ وتبعهُ المديرُ بعينيهِ حتى انصرفَ ومن ثمَّ حدَّثَ نفسَهُ: “أتمنى لكَ حظًّا سعيدًا أيُّها الشابُّ الصغيرُ.”

******

الزمان: منذ عشرة أيام..

المكان: مستشفى استثمارية كبيرة بالقاهرة..

بغرفة واسعة مُغطَّاة بزجاجٍ شفافٍ ومُعقَّمةٍ بالكاملِ، كانت تنامُ دليلةُ على سريرِها ترتدي اللونَ الأبيضَ بالكاملِ وشعرُها مُغطَّى بحجابٍ وتضعُ على وجهِها قناعَ أكسجينٍ يُغطِّي كاملَ وجهِها، ويبدو عليها الهُزالُ والضعفُ الشديدُ، وكانت تقفُ بجوارِها مُمرِّضةٌ تنظرُ إلى نبضِها وتُعطي لها بعضَ الفيتاميناتِ عن طريقِ بعضِ المحاليلِ المُعلَّقةِ فوقَها. دلفَ إلى الغرفةِ بسرعةٍ زوجُها إيهاب حسن وتوقفَ للحظاتٍ عندما شاهدَ المُمرِّضةَ مع زوجتِهِ. كان إيهابُ بحجمٍ ضخمٍ كبيرٍ ولديهِ بعضُ الدهونِ في جسدِهِ تُعطيهِ شكلًا غيرَ مُتناسقٍ ويبدو عليهِ أنَّهُ كان رياضيًّا منذُ زمنٍ بعيدٍ وتركَ مُمارسةَ الرياضةِ في الوقتِ الحاليِّ. عندما انتهتِ المُمرِّضةُ من عملِها تركتِ الغرفةَ وقامتْ بتحيةِ إيهابَ وهي مُنصرفةٌ فبادلَها التحيةَ واتجهَ إلى داخلِ غرفةِ التعقيمِ التي قامتْ برشِّ بعضِ الدخانِ الأبيضِ عليها للحظاتٍ ومن ثمَّ فتحَ البابَ الزجاجيَّ إلى سريرِ زوجتِهِ، التي ما إنْ شاهدتهُ علتْ ملامحُ الفرحِ الشديدةُ عليها ولكنَّها لم تستطعِ التحدثَ إليهِ. أخرجَ وردةً صغيرةً كان يُخبِّئُها خلفَ ظهرِهِ وأظهرَها لها وهو يبتسمُ: “أجملُ وردةٍ لأجملِ وردةٍ بحياتي كلِّها، لقد اشتقتُ إليكِ للغايةِ يا دليلةُ يا حبيبتي.”

نظرتْ لهُ دليلةُ بجانبِ عينِها وهي تُحاولُ الابتسامَ بصعوبةٍ، فأكملَ إيهابُ الحديثَ إليها: “بما أنَّني لم أرَكِ منذُ يومينِ فسوفَ أجعلُكِ تضجرينَ من مُحادثتي، لقد عزمتُ على إخبارِكِ ماذا حدثَ معي بالأيامِ الماضيةِ، ولهذا فسأبدأُ في سردِ حديثي المُملِّ الآنَ فلتأخذي حِذْرَكِ. هل تعلمينَ كيفَ استيقظتُ اليومَ؟ تخيَّلي هكذا؟!.. لقد استيقظتُ بسببِ قِطَّتِكِ الحمقاءِ البدينةِ، لقد تركتْ هواياتِها المُحبَّبةَ في تدميرِ وبعثرةِ مُحتوياتِ مكتبي، والكتبِ التي تُمزِّقُها طوالَ الوقتِ، وقماشِ الستائرِ التي تتعلقُ بها دائمًا، تركتْ كلَّ شيءٍ بالمنزلِ وأتتْ لتنامَ فوقَ رأسي دونَ أنْ أعلمَ، لقد كنتُ نائمًا وسابحًا في بحارِ الأحلامِ السبعِ لأجدَ شيئًا يحتكُّ بأنفي فشعرتُ بالحكَّةِ الشديدةِ، فأقومُ بفركِها بأصابعي وأعودُ إلى النومِ، لأجدَ حكَّةَ أنفي تعودُ من جديدٍ، فكنتُ أفركُ أنفي بلا مُبالاةٍ وأعودُ إلى النومِ سريعًا وأنا أظنُّ أنَّني أحلمُ، ولكنِ اكتشفتُ بالنهايةِ أنَّ تلكَ القطةَ اللعينةَ نائمةٌ فوقَ رأسي وتقومُ بتحريكِ ذيلِها يمينًا ويسارًا فوقَ أنفي حتى كادتْ تُصيبُني بالجنونِ.”

ضحكتْ دليلةُ على حديثِهِ بشدةٍ ولكنَّها لم تستطعْ أن تُصدرَ أيَّ صوتٍ. إيهابُ نظرَ إليها وهي تضحكُ وضحكَ هو الآخرُ على ضحكِها. “ما هذا؟ أتضحكينَ على مأساتي مع القطةِ يا دليلةُ؟ هل اتخذتِ صفَّها لأنَّها قِطَّتُكِ؟ وليكنْ بعلمِكِ، أنا لم أتركْها تنجوَ بفعلتِها هذهِ، لقد انتقمتُ منها أشدَّ انتقامٍ، لقد قمتُ بتحميمِها على الرغمِ عنْها بمياهٍ باردةٍ، وأنتِ تعلمينَ بأنَّ قِطَّتَكِ قذرةٌ لا تُحبُّ الاستحمامَ، على الرغمِ من أنَّها قامتْ بخدشي عدَّةَ مراتٍ وقامتْ بعضِّ يدي مرتينِ ولكنْ كلُّ ذلكَ تضحيةٌ بسيطةٌ في سبيلِ سماعِ مواءِها وهي بينَ يديَّ تحتَ المياهِ ولا تستطيعُ الخلاصَ، وإمعانًا في قسوتي ومُحاولةِ إذلالِها، لقد حمَّمتُها من غيرِ صابونٍ أو شامبو.” أخذتْ تضحكُ دليلةُ للحظاتٍ بدونِ صوتٍ ومن ثمَّ تحوَّلَ ضحكُها إلى بُكاءٍ مكتومٍ وتساقطتْ دموعُها فجأةً، نظرَ إليها إيهابُ مصدومًا واقتربَ أكثرَ منها وهو يُحدِّثُها مُرتعدًا: “ما بكِ يا دليلةُ؟.. لماذا تبكينَ؟!.. أنتِ تعلمينَ أنِّي أشعرُ بالضيقِ الشديدِ عندما أُشاهدُ دموعَكِ!” حاولتِ التحدثَ إليهِ بشفتيها دونَ أنْ تُصدرَ صوتًا، حاولَ حازمُ على الفورِ قراءةَ شفتيها وهو يشعرُ بالشفقةِ الشديدةِ عليها، وأخذتْ دليلةُ تتحدثُ إليهِ باكيةً من غيرِ صوتٍ مسموعٍ وهو يُحاولُ أنْ يقرأَ حركةَ شفتيها بسرعةٍ ليفهمَ ما تقصدُهُ، وعندما انتهتْ من حديثِها إليهِ، امتلأتْ عيونُهُ بالدموعِ التي حاولَ أنْ يمنعَها من التساقطِ وأخذَ يمسحُها بسرعةٍ بمنديلٍ بيدهِ وهو يُحدِّثُها بأسىً: “لا تُفكِّري هكذا يا دليلةُ.. أنتِ زوجتي حبيبتي.. أنا لن أتخلَّى عنكِ أبدًا.. وسوفَ أفعلُ المستحيلَ حتى تبرئي من مرضِكِ وتعودي لصحتِكِ مرةً أخرى..” أخذتْ تهزُّ رأسَها ببطءٍ وهي غيرُ راضيةٍ عمَّا يقولُهُ، وهنا على الفورِ ابتسمَ لها وهو يُحاولُ طمأنتَها: “أنتِ تعلمينَ أنِّي عنيدٌ للغايةِ ولا أُحبُّ الاستسلامَ.. لا يوجدُ شيءٌ فعلتُهُ ولم أنجحْ بهِ.. ومرضُكِ هذا ابتلاءٌ من اللهِ لنا أنا وأنتِ وسننجحُ بعونِ اللهِ وتوفيقِهِ.. هذا امتحانٌ وكبوةٌ مثلُ التي واجهناها أنا وأنتِ كثيرًا من قبلُ.. أنا لا أُريدُكِ أنْ تُفكِّري بطريقةٍ سلبيةٍ أبدًا.. أنا أستطيعُ أنْ أتحدَّى الدنيا كلَّها طالما أرى ابتسامتَكِ.. دموعُكِ تُحطِّمُني.. أنا لا أستطيعُ أنْ أراها أمامي أبدًا.. أُريدُ أنْ أرى ابتسامتَكِ تُنيرُ الدنيا دائمًا.. ابتسامتُكِ هذهِ هي منارةُ الضوءِ التي تُوجِّهُني في حياتي.. أنا لن أتخلَّى عن علاجِكِ أبدًا.. يجبُ أنْ تكوني واثقةً ومُطمئنةً.. إيهابُ زوجُكِ عندما يَعِدُ يوفي، وأنتِ تعلمينَ هذا جيدًا.. وأنا وعدتُكِ أنَّكِ قريبًا جدًّا ستعودينَ أحسنَ من السابقِ.. أنا سأقلبُ الدنيا كلَّها رأسًا على عقبٍ حتى أجدَ علاجَكِ لا تقلقي أبدًا.. هيا.. هيا يا حبيبتي.. أُريدُ أنْ أرى ابتسامتَكِ مرةً أخرى.”

ارتسمتْ ابتسامةٌ على وجهِ دليلةَ ببطءٍ شديدٍ.. فابتسمَ إيهابُ لابتسامتِها وأخذَ يُحدِّثُها: “نعم هكذا.. ضحكتُكِ هذهِ فتحتِ الوردَ في الدنيا مرةً أخرى.. سوفَ أُكملُكِ باقي حكايتي مع قِطَّتِكِ يا محبوبتي.. لقد أعددتُ لنفسي الغداءَ وقمتُ بتحضيرِ الطعامِ لها.. وبعدَ أنْ تناولتْ طعامَها كلَّهُ.. ركضتْ عليَّ سريعًا ومن ثمَّ قفزتْ على يدي لتلتقطَ قطعةَ الدجاجِ من يدي وركضتْ هاربةً.”

*******

جلس مدير المستشفى الاستثماري بغرفته وهو يُعاينُ بعضَ الأوراقِ بين يديهِ باهتمامٍ شديدٍ، قاطعهُ صوتُ طرقٍ على البابِ فتركَ ما بيدهِ وأمرَ الطارقَ بالدخولِ، ليظهرَ لهُ من وراءِ البابِ إيهاب حسن فصافحهُ، فبادلهُ المديرُ المُصافحةَ باهتمامٍ شديدٍ. “السلامُ عليكم.. كيفَ حالُكَ يا دكتور مجدي؟!”

“أهلًا.. أهلًا.. كيفَ حالُكَ يا مهندس إيهاب؟.. تفضلْ.”

جلسَ إيهابُ على المقعدِ أمامهُ. “أنا آسفٌ يا دكتور مجدي.. أنا أعلمُ بأنِّي قد تأخرتُ عليكَ قليلًا بالدفعةِ الجديدةِ.. لكن خلالَ يومينِ إن شاءَ اللهُ سوفَ أتسلَّمُ نهايةَ دفعتي في المشروعِ الذي أعملُ عليهِ حاليًا وسوفَ أقومُ بتسليمِ النقودِ لكَ على الفورِ.”

“لا.. لا.. أنا لا أُريدُكَ من أجلِ ذلكَ.. أنا أُريدُ أنْ أتحدثَ إليكَ عن حالةِ مدام دليلةَ بشكلٍ عامٍ.. أنتَ تعلمُ بأنَّ مرضَ مدام دليلةَ هذا مرضٌ غامضٌ ولم نكتشفْ لهُ أيَّ حالةٍ مُشابهةٍ من قبلُ.. ولولا أنَّهُ لم يُصَبْ بهذا المرضِ شخصٌ غيرُها خلالَ عامينِ.. لكانَ صُنِّفَ مرضُها على أنَّهُ وباءٌ عالميٌّ جديدٌ، ولكنْ لحسنِ الحظِّ أنَّهُ مرضٌ فرديٌّ ولكنْ لسوءِ حظِّ مدام دليلةَ أنَّها هي الحالةُ الأولى في العالمِ لهذا المرضِ.. لأنَّنا لم نكتشفْ أيَّ حالةٍ مُشابهةٍ أو تشخيصًا واضحًا لمرضِها نستطيعُ القياسَ عليهِ أيَّ مرضٍ آخرَ ونُحاولُ علاجَها من خلالِهِ.. نحنُ مثلُ شخصٍ يبحثُ عن شيءٍ ما في المحيطِ وهو لا يعلمُ ماهيةَ الشيءِ الذي يبحثُ عنهُ من الأساسِ.”

ظهرتْ ملامحُ الارتيابِ على وجهِ إيهابَ. “أنا أعلمُ كلَّ هذهِ الأشياءِ منذُ زمنٍ يا دكتور مجدي، ولقد سمعتُها منكَ ومن غيرِكَ طوالَ السنواتِ الماضيةِ.. ما الذي جدَّ الآنَ؟.. هل حضرتكَ لا ترغبُ بأنْ نُكملَ علاجَ دليلةَ بالمستشفى لديكم؟.. إذا كان هذا هو الأمرُ فأنتَ في حِلٍّ من الإحراجِ ولتُخبرني بهذا وسوفَ أتصرَّفُ أنا على الفورِ.”

لاحقهُ المديرُ سريعًا: “لا.. ليسَ هذا قصدي إطلاقًا.. أنا سأقومُ بشرحِ الأمرِ بوضوحٍ أكبرَ.. حالةُ مدام دليلةَ طبيًّا وبكلِّ اختصارٍ.. حالةٌ ميؤوسٌ منها.. نحنُ نُعالجُ شيئًا غامضًا ليسَ لهُ ملامحُ.. لا نحنُ أو غيرُنا نستطيعُ مُساعدتَكَ.. وبصراحةٍ شديدةٍ أنا أرى أنَّ مُحاولةَ علاجِها هو استنزافٌ لأموالِكَ..”

ظهر الضيقُ الشديدُ على وجهِ إيهابَ: “أنا لا يهُمُّني كلُّ ذلكَ يا سيد مجدي.. إنَّ النقودَ هي آخرُ اهتماماتي.. وإذا كنتم أنتم فقدتمُ الأملَ أنْ تُعالِجُوها أنا لم أفقدِ الأملَ إطلاقًا، وأقومُ بالبحثِ عن كلِّ الطرقِ التقليديةِ والغيرِ تقليديةٍ لعلاجِها.” “آسفٌ جدًّا يا إيهابُ لو أزعجتُكَ بحديثي.. أنا أتحدثُ معكَ من منظورٍ عائليٍّ بحتٍ، أنا صديقٌ لعمِّكَ حامدٍ رحمهُ اللهُ عليهِ وأعتبرُ نفسي جزءًا من عائلتِكَ.”

“بالطبعِ.. بالطبعِ يا دكتور مجدي.. أنا أعلمُ قصدَكَ جيدًا.. لكنَّ دليلةَ زوجتي، ولا أستطيعُ أنْ يكونَ بمقدوري فعلُ شيءٍ ولا أُساعدُها بهِ.”

“إذا كانتْ هذهِ رغبتُكَ فيجبُ عليَّ أنْ أُخبرَكَ بأنَّ هناكَ حلًّا آخرَ ظهرَ أمامَنا.. لقد تحدثتْ إلينا بالأسبوعِ الماضي، مُنظمةُ مُكافحةِ الأمراضِ الأمريكيةِ (CDC) وعرضوا علينا أنْ يقوموا بعلاجِ دليلةَ لديهم وتحتَ رعايتِهم، لأنَّهم على حسبِ حديثِهم يُريدونَ أنْ يعلموا طبيعةَ هذا المرضِ الغامضِ، ومتى ظهرَ فجأةً هكذا ويدرسوهُ جيدًا ويعلموا أعراضَهُ لكي يكونوا جاهزينَ لعلاجِهِ إذا ظهرَ بعدَ ذلكَ بأيِّ مكانٍ آخرَ، لا يُريدونَ أنْ يُكرِّروا أخطاءَ وباءِ كورونا مرةً أخرى.”

إيهابُ يُداعبُ ذقنَهُ بحيرةٍ: “سي دي سي.. هذا أمرٌ غريبٌ.. ما هو رأيُكَ أنتَ يا دكتور مجدي؟..”

“أنا لا أستطيعُ أنْ أُعطيَ لكَ رأيًا أو أقومَ بمُحاولةِ التأثيرِ عليكَ.. هذا قرارٌ هامٌّ للغايةِ، يجبُ أنْ تتخذَهُ أنتَ ولكنْ أنا سأُخبرُكَ ما أعتقدُهُ حتى تصبحَ الصورةُ واضحةً لديكَ.. مدام دليلةُ ستكونُ تحتَ رعايتِهم الكاملةِ بالطبعِ، وسيقومونَ باستخدامِ أحدثِ المُعدَّاتِ والأدويةِ المُتواجدةِ بالعالمِ، ولكنْ لأنَّنا بِصَدَدِ مرضٍ غامضٍ ومجهولٍ فأنا أُخبرُكَ وبكلِّ صراحةٍ أنَّها سوفَ تُعاملُ مُعاملةَ فئرانِ التجاربِ، سوفَ تخضعُ لعلاجٍ من كافةِ الأنواعِ والأشكالِ لعلَّ وعسى يكونُ لدى أحدِ تلكَ الأدويةِ ردُّ فعلٍ على المرضِ ولو حتى بنسبةٍ هامشيةٍ، سيكونُ انتصارًا كبيرًا لديهم في طريقِ علاجِ هذا المرضِ إذا تكررَ مع أحدٍ آخرَ فيما بعدُ، لكنَّها بكلِّ تأكيدٍ ستكونُ تجربةً غيرَ مُريحةٍ لمدام دليلةَ أبدًا.. أنتَ أمامَ خيارٍ من ثلاثةِ اختياراتٍ.. الأولُ أنْ تكفَّ عن علاجِها تمامًا وتعيشوا حياتَكم مع بعضٍ حتى النهايةِ.. أو إنَّكَ تستمرُّ في العلاجِ وساعتها تأخذُ الخيارَ الثانيَ أنْ تستمرَّ بالعلاجِ لدينا بالمستشفى، أو أنْ تأخذَ الخيارَ الثالثَ، وتجعلَ السي دي سي تُعالجُها ولعلَّ وعسى تكونُ أحدُ مُحاولاتِهم ناجحةً معها.”

بدا على إيهابَ الحيرةُ الشديدةُ، فقرأ الطبيبُ مجدي وجهَهُ فتحدثَ إليهِ من جديدٍ: “أنا أعلمُ جيدًا أنَّكَ ترغبُ بعلاجِ مدام دليلةَ.. ولهذا يبدو عليكَ أنَّكَ في حيرةٍ من أمرِكَ.. خذْ وقتَكَ وفكِّرْ جيدًا واعلمْ أنَّ أيَّ قرارٍ سوفَ تتخذُهُ سوفَ نُؤازرُكَ جميعًا بهِ.” إيهابُ استمعَ إليهِ وهو مُمسكٌ برأسِهِ مُحتارًا وأخذَ يُفكِّرُ بعمقٍ.

*******

صعد حازم سريعًا درجاتِ السُّلَّمِ حتى وصلَ إلى الطابقِ الثالثِ ووقفَ أمامَ بابِ شقتِهِ، وهنا لاحظَ صندوقًا كرتونيًّا صغيرًا مُربَّعَ الشكلِ مُغلَّفًا على شكلِ هديةٍ، تقدَّمَ جهةَ الصندوقِ والتقطهُ في الحالِ بيدِهِ وأخذَ يُقلِّبُهُ بينَ أناملِهِ مُستغربًا.
“ما هذا؟.. أتلكَ هديةٌ مُرسلةٌ لي؟.. من أرسلَها يا تُرى؟”
رفعَ الصندوقَ إلى جانبِ أُذنِهِ وقامَ بتحريكِهِ عدةَ مراتٍ وأخذَ يُحدِّثُ نفسَهُ مُستغربًا.
“لا يخرجُ أيُّ صوتٍ.. هل هي فارغةٌ أم ماذا؟!!”
فتحَ بابَ شقتِهِ سريعًا ودلفَ إلى الداخلِ.. “سوفَ نرى ما هي تلكَ الهديةُ بالداخلِ على راحتِنا.”
تحركَ سريعًا جهةَ غرفةِ المعيشةِ ووضعَ الصندوقَ على منضدةٍ أمامَ الأريكةِ ودلفَ إلى الحمَّامِ لعدةِ دقائقَ وبعدَ أنِ انتهى ذهبَ إلى المطبخِ وفتحَ ثلاَّجتَهُ وأخرجَ منها زجاجةَ مياهٍ غازيةٍ ومن ثمَّ عادَ ليجلسَ على الأريكةِ ووضعَ قدميهِ على المنضدةِ وألقى برأسِهِ إلى الخلفِ وهو ينظرُ للصندوقِ أمامهُ وهو يرتشفُ من الزجاجةِ باستِمتاعٍ.
“من يا تُرى أرسلَ هذهِ الهديةَ لي؟.. ولماذا تركَها أمامَ بابِ منزلي، لماذا لم يُعطِها لي وجهًا لوجهٍ؟!! هل من الممكنِ أنْ تكونَ حياةُ من أرسلتْها؟.. لا أعتقدُ هذا فلم يَحُلَّ موعدُ ميلادي حتى الآنَ وهي بالتأكيدِ كانتْ ستُعطيني الهديةَ بنفسِها مثلَ كلِّ مرةٍ.. أيُمكنُ أنْ يكونَ إيهابُ؟ لا.. لقد كنتُ معهُ منذُ قليلٍ وهو أيضًا ليسَ بحالةٍ تجعلُهُ يُفكِّرُ بإرسالِ هديةٍ أو خلافِهِ.. يكفي ما ألمَّ بهِ.”
رشفَ من زجاجةِ المياهِ الغازيةِ مرةً أخرى.. “إذا من الذي أرسلَها يا تُرى؟؟.. لماذا أُفكِّرُ كثيرًا، هيا نفتحُها ونرى ما بداخلِها.”
وضعَ المياهَ الغازيةَ على المنضدةِ والتقطَ الصندوقَ بلهفةٍ، ومزَّقَ الكرتونَ الذي يُحيطُ بها، فوجدَ كيسًا أبيضَ صغيرًا مع الصندوقِ، فنظرَ إليهِ سريعًا ومن ثمَّ تركهُ على المنضدةِ، ثمَّ نظرَ بداخلِ الصندوقِ فوجدَ علبةً قطيفةً بيضاءَ اللونِ.. ففتحَها فوجدَ خاتمًا بداخلِها فتحدثَ إلى نفسِهِ ضاحكًا.. “خاتمٌ بداخلِ علبةٍ قطيفةٍ.. هل يرغبُ أحدٌ في خِطبتي أم ماذا؟!!”
وعلى الفورِ التقطَ الخاتمَ من العلبةِ وأخذَ يتفحَّصُهُ بعنايةٍ، ليرى أمامهُ خاتمًا فضيًّا قيِّمًا للغايةِ مكتوبًا على جوانبِهِ بالعربيةِ ومُزخرفًا بشكلٍ أنيقٍ، قرأ الكتابةَ العربيةَ الموجودةَ على الخاتمِ فوجدَ مكتوبًا عليها كلمةُ “الجاثمِ”.. انْبَهَرَ حازمُ بجودةِ وصناعةِ وشكلِ الخاتمِ وأخذَ يُحدِّثُ نفسَهُ وهو يُقلِّبُهُ بيدِهِ..
“أووه.. ما هذا الجمالُ؟.. خاتمُ فضةٍ رائعٌ.. عليهِ كتابةٌ وزخرفةٌ عربيةٌ.. يبدو على الخاتمِ أنَّهُ قديمٌ للغايةِ.. يبدو أنَّهُ خاتمٌ أثريٌّ.. مكتوبٌ عليهِ الجاثمُ!! ما هذا الاسمُ؟.. إنَّهُ غريبٌ للغايةِ.. الجاثمُ.. ماذا يعني؟”
وضعَ حازمُ الخاتمَ بأُصبعِ البنصرِ بيدِهِ اليمنى وهو ينظرُ إليهِ بيدِهِ وهو سعيدٌ للغايةِ.. “يا اللهُ.. ما هذا الجمالُ؟.. إنَّهُ منظرٌ رائعٌ بيدي.. حسنًا رأينا الخاتمَ.. هيا بنا نُلقي نظرةً على مُحتوياتِ الكيسِ الذي كانَ معهُ.”
التقطَ الكيسَ على الفورِ وفتحَهُ وفرَّغَ مُحتوياتِهِ على المنضدةِ أمامهُ، فظهرَ أمامهُ عدةُ أرقامٍ بحجمٍ صغيرٍ بالإنجليزيةِ، عددُهم أحدَ عشرَ رقمًا، يبدؤونَ بالصفرِ وينتهونَ برقمِ 9 ولهم سبعةُ ألوانٍ مُختلفةٍ، أحمرٌ وأصفرُ وبرتقاليٌّ وأخضرُ وأزرقُ وبنفسجيٌّ ونيليٌّ، ومنهم ثلاثةُ أرقامٍ بلونٍ بنفسجيٍّ برقمِ 7.
داعبَ ذقنَهُ بحيرةٍ وهو ينظرُ للأرقامِ أمامهُ..
“ما هذا؟.. أرقامٌ مُلوَّنةٌ.. ما هذهِ الأرقامُ؟.. يبدو أنَّ تلكَ الهديةَ مُرسلةٌ لشخصٍ آخرَ وليستْ لي.. يجبُ أنْ أُعيدَ كلَّ شيءٍ بمكانِهِ وأنتظرُ من أرسلَها ليأخذَها من جديدٍ فيبدو أنَّها أتتْ إليَّ بالخطأِ.”
وضعَ الأرقامَ بداخلِ الكيسِ من جديدٍ، وقامَ بمُحاولةِ نزعِ الخاتمِ من يدِهِ، فشعرَ حازمُ فجأةً بأنَّ الخاتمَ يضيقُ على أُصبُعِهِ بشدةٍ ومن ثمَّ شعرَ بشيءٍ يخترقُ جلدَ أُصبُعِهِ بسرعةٍ، وهنا شعرَ بألمٍ شديدٍ يجتاحُ أُصبُعَهُ كلَّما حاولَ أنْ يُخرجَ الخاتمَ من يدِهِ ويتوقفُ الألمُ عندما يكفُّ عن المُحاولةِ، كرَّرَ هذا الأمرَ أكثرَ من مرةٍ ونفسُ النتيجةِ يشعرُ بألمٍ شديدٍ عندَ مُحاولةِ نزعِ الخاتمِ ويزولُ الألمُ عندما يتركُهُ بيدِهِ، فصرخَ بغضبٍ شديدٍ وهو ينظرُ ليدِهِ.. “ما الأمرُ مع هذا الخاتمِ الملعونِ؟.. عندما أُحاولُ أنْ أنزعَهُ يكادُ يُمزِّقُ يدي.”
شعرَ بالحيرةِ من هذا الأمرِ فقامَ بالتفتيشِ بداخلِ العلبةِ ربما يجدُ شيئًا يُساعدُهُ على فهمِ ما يجري فلم يجدْ أيَّ شيءٍ آخرَ فازدادَ حيرةً.
“لا يوجدُ هنا سوى الأرقامِ.. أرقامٌ!!، هل من الممكنِ أنْ يكونَ هناكَ لغزٌ أو تلميحٌ بهذهِ الأرقامِ؟..”
قامَ حازمُ بوضعِ الأرقامِ أمامهُ على المنضدةِ وافترشَها وظلَّ ينظرُ إليها وهو يُفكِّرُ بعمقٍ..
“يبدو أنَّهُ بالفعلِ لغزٌ أو مقلبٌ قد صنعهُ شخصٌ لي ويجبُ أنْ أحلَّهُ لكي أنزعَ هذا الخاتمَ.”
ظلَّ يُداعبُ ذقنَهُ وهو ينظرُ للأرقامِ أمامهُ والتي كانتْ مُكوَّنةً من أحدَ عشرَ رقمًا مُلوَّنًا، منهم ثلاثةُ أرقامٍ مُكرَّرةٍ برقمِ 7، حرَّكَ الأرقامَ بيدِهِ وهو يتحدثُ إلى نفسِهِ مُفكِّرًا..
“اممم.. أرقامٌ.. ولغزٌ.. أنا أكرهُ الأرقامَ والألغازَ معًا.. ماذا أفعلُ الآنَ؟.. يجبُ أنْ أُفكِّرَ جيدًا.. أرقامٌ مُلوَّنةٌ.. وهناك ثلاثةُ أرقامٍ بلونٍ واحدٍ.. هل هذهِ الأرقامُ لها علاقةٌ بالألوانِ؟…. اممم سبعةُ ألوانٍ.. و11 رقمًا.. ما هو الرابطُ بينَهم؟.. امممم.. حسنًا ما هي الأرقامُ التي نستخدمُها مُكوَّنةً من أحدَ عشرَ رقمًا؟.. فِرَقُ كرةِ القدمِ.. ماذا أيضًا؟.. وأرقامُ الهواتفِ.. نعم لقد فهمتُ أخيرًا.. تلكَ الأرقامُ رقمُ هاتفٍ.. هذا هو الحلُّ المنطقيُّ!!”
قامَ بترتيبِ الأرقامِ بسرعةٍ بطريقةٍ عشوائيةٍ بأصابعِهِ…
“حسنًا هذا رقمُ هاتفٍ.. كيفَ أقومُ بترتيبِهِ ترتيبًا صحيحًا؟.. لو ظللتُ أُرتبُهُ بطريقةٍ عشوائيةٍ سأظلُّ هكذا للعامِ القادمِ، يوجدُ احتمالاتٌ لانهائيةٌ لتلكَ الأرقامِ العشوائيةِ.. بالتأكيدِ هذا اللغزُ لهُ مرحلةٌ تاليةٌ للحلِّ.. ما هو يا تُرى؟.. الألوانُ!! هناكَ سبعةُ ألوانٍ، منهم لونٌ مُتكرِّرٌ ثلاثَ مراتٍ.. سبعةُ ألوانٍ.. سبعةُ ألوانٍ.. ما هو الذي يجمعُ سبعةَ ألوانٍ معًا؟.. ماذا يا تُرى؟.. فكِّرْ يا حازمُ.. سبعةُ ألوانٍ..”
فجأةً يلوحُ بيدِهِ فرحًا..
“وجدتُها!!.. إنَّها ألوانُ الطيفِ السبعةِ.. نعم هذا صحيحٌ.. تلكَ ألوانُ الطيفِ السبعةِ أمامي.. أحمرٌ وأصفرُ وأزرقُ وأخضرُ وبنفسجيٌّ ولونٌ أزرقُ مرةً أخرى وبرتقاليٌّ.. ما هو كان ترتيبُهم مرةً أخرى؟.. ما هذا؟.. لقد نسيتُ ترتيبَهم.. آخرَ مرةٍ كنتُ أحفظُهم عندما كنتُ بالمرحلةِ الابتدائيةِ.. حسنًا سوفَ أبحثُ عن ترتيبِهم على الإنترنتِ.”
وعلى الفورِ أمسكَ هاتفَهُ للحظاتٍ وهو يُحدِّثُ نفسَهُ.. “ألوانُ الطيفِ.. ألوانُ الطيفِ.. ألوانُ الطيفِ.. ها هم وجدتُهم.. ترتيبُهم أحمرُ.. برتقاليٌّ.. أصفرُ.. أخضرُ.. أزرقُ.. نيليٌّ.. ما اللونُ النيليُّ هذا؟!!.. هؤلاءِ العلماءُ يُطلقونَ بعضَ الأسماءِ الغريبةِ للغايةِ.. وأخيرًا اللونُ المُحبَّبُ إلى نفسي البنفسجيُّ.”
وضعَ هاتفَهُ مكانَهُ وعادَ للأرقامِ وأخذَ يُرتِّبُهم من جديدٍ وهو يُحدِّثُ نفسَهُ..
“رائعٌ.. رائعٌ لقد قمتُ بترتيبِهم ونتجَ عن هذا رقمٌ صحيحٌ آخرُهُ 777 لهذا كان كلُّهم لونُهم بنفسجيٌّ.. من هذا العبقريُّ الذي صنعَ هذا اللغزَ؟.. لكن هيهاتَ.. أنا حازمُ منصورُ، لا يوجدُ لغزٌ يستعصي أمامي أبدًا والحمدُ للهِ.. أتمنى من اللهِ أنْ يكونَ هذا الرقمُ صحيحًا ولا يذهبَ كلُّ جهدي هذا هباءً.”
قامَ حازمُ بالاتصالِ على الرقمِ الذي استنتجَهُ من اللغزِ وأخذَ يبدو على ملامحِهِ معالمُ القلقِ والترقُّبِ.. وعلى الفورِ استمعَ إلى صوتِ شخصٍ يتحدثُ إليهِ من الهاتفِ..
“ألووو.”
دلفَ إلى أُذنِ حازمَ صوتُ المُتحدثِ على الهاتفِ وكان يتحدثُ بنبرةٍ هادئةٍ ورخيمةٍ.. فشعرَ حازمُ بالقلقِ والتوترِ وظهرَ هذا جليًّا بصوتِهِ وهو يُحدِّثُهُ..
“ألووو.. أ.. مساءَ الخيرِ.. أنا..”
استمعَ إلى صوتِ الرجلِ يضحكُ بقوةٍ…
“حازمُ!!.. كيفَ حالُكَ؟.. من الواضحِ أنَّ هديتي قد وصلتْ إليكَ واستطعتَ حلَّ اللغزِ بسهولةٍ.. كنتُ أعتقدُ بأنَّكَ سوفَ تأخذُ وقتًا أكثرَ من هذا بكثيرٍ.”
حازمُ مُندهشًا..
“يبدو عليكَ أنَّكَ تعرفُني جيدًا.. من أنتَ؟”
الرجلُ أجابَهُ بصوتٍ قويٍّ وسريعٍ وقاطعٍ..
“أنا القائمُ مقامِ.”
حازمُ مُستغربًا.. “قائمُ ماذا؟!!”
ضحكَ الرجلُ بقوةٍ..
“.. القائمُ مقامِ.. أنا أعلمُ أنَّ اسمي سيكونُ غريبًا عليكَ بالبدايةِ، ولكن أُوعِدُكَ أنَّكَ لا تنساهُ بعدَ ذلكَ أبدًا.. ها طمئنِّي.. هل ارتديتَ خاتمَ الجاثمِ أم لا؟!”
حازمُ يتحسَّسُ الخاتمَ بأُصبُعِهِ..
“ما هو الجاثمُ هذا؟.. ولماذا أرسلتَهُ لي؟.. ولماذا لا أستطيعُ أنْ أنزعَهُ من يدي؟.. هل وضعتَ الغراءَ بهِ أم ماذا؟”
ضحكَ القائمُ مقامِ بشدةٍ.. “يبدو عليكَ أنَّكَ خفيفُ الظلِّ.. بما أنَّكَ ارتديتَ خاتمَ الجاثمِ فلكَ عندي خبرانِ، أحدُهما جيدٌ والآخرُ سيِّئٌ.”
يبدو الارتباكُ على وجهِ حازمَ وظهرَ هذا بنبرةِ صوتِهِ..
“خبرانِ؟.. من أنتَ؟.. ماذا يحدثُ؟.. أنا لا أفهمُ أيَّ شيءٍ.”
“سوفَ تفهمُ كلَّ شيءٍ عندما أُخبرُكَ بمضمونِ الخبرينِ حالًا…. الخبرُ الأولُ واسمعني جيدًا بهِ ولا تُقاطعني نهائيًّا.. إنَّ الخاتمَ الجاثمَ هذا لا يُنزعُ من يدِ أيِّ شخصٍ يرتديهِ أبدًا، إنَّهُ مُصمَّمٌ في الأساسِ للمحكومِ عليهم بالإعدامِ.. خمسةٌ وأربعونَ يومًا بالضبطِ منذُ أنْ يضعَهُ أيُّ شخصٍ في يدِهِ.. يخترقُ جسدَهُ بالحالِ سمٌّ نادرٌ ينتشرُ ببطءٍ شديدٍ جدًّا في الجسدِ، ويتمُّ دورتُهُ كاملةً خلالَ 45 يومًا ويصلُ إلى القلبِ وحينها يموتُ الشخصُ في التوِّ والحالِ وبألمٍ شديدٍ لا يوصفُ.”
شعرَ حازمُ بالحالِ بصدمةٍ شديدةٍ، صدمةٌ أفقدتهُ النطقَ أو التعبيرَ حتى بتلكَ اللحظةِ..
“ما.. ي.. أنتَ.. ماذا تقولُ؟.. يا نهارَ أسودَ.. أنتَ تهذي بالتأكيدِ.”
تابعَ القائمُ مقامِ حديثَهُ إليهِ..
“اهدأْ قليلًا واستمعْ إليَّ للنهايةِ، سوفَ أُجيبُكَ على كلِّ أسئلتِكَ في الحالِ.. لقد علمتَ الآنَ أنَّهُ تبقى لكَ 45 يومًا حتى تُودِّعَ هذهِ الدنيا.. ولو كنتَ لا تُصدِّقُني.. الأمرُ سهلٌ للغايةِ.. سوفَ تذهبُ غدًا وتقومُ بتحليلِ دمائِكَ وسيظهرُ لكَ بكلِّ وضوحٍ نوعُ السمِّ بجسدِكَ ولكنَّكَ لن تجدَ لهُ المصلَ أبدًا.. ولكنْ لا تقلقْ الدنيا ليستْ سوداءَ بالكاملِ أمامَكَ.. سوفَ أُخبرُكَ الخبرَ الثانيَ الذي سيجعلُكَ سعيدًا.. بالفعلِ الخاتمُ لا تستطيعُ أنْ تخلعَهُ من يدِكَ أبدًا.. حتى لو قطعتَ يدَكَ.. سيظلُّ مفعولُ السمِّ في الجسدِ وسوفَ تموتُ أيضًا وخلالَ 45 يومًا.. الحلُّ الوحيدُ هو أنَّكَ تخلعُ الخاتمَ من يدِكَ في مكانٍ مُعيَّنٍ مُخصَّصٍ لذاكَ، اسمُهُ “المنتزعةُ”، سوفَ أُخبرُكَ على مكانِهِ بالضبطِ وتستطيعُ أنْ تخلعَ من خلالِهِ الخاتمَ.. لكنْ بشرطٍ واحدٍ فقطْ.”
حازمُ مُتلهِّفًا.. “ما هو شرطُكَ؟.. أخبرني سريعًا.”
“سوفَ تبحثُ عن كتابٍ ضائعٍ وأبحثُ عنهُ منذُ زمنٍ.. اسمُهُ “كتابُ الكنوزِ”.. قبلَ أنْ تنتهيَ الخمسةُ والأربعونَ يومًا وينتشرَ السمُّ إلى قلبِكَ، يجبُ أنْ تجدَ كتابَ الكنوزِ.. وسوفَ أُخبرُكَ على مكانِ “المنتزعةِ” ونفرحُ ونهيصُ كلُّنا ونطيرُ على عشِّ الهناءِ.”
حازمُ مصدومًا: “كتابُ كنوزٍ ماذا؟.. هذا الأمرُ برمَّتِهِ ليسَ لي علاقةٌ بهِ.. لماذا فعلتَ معي هكذا؟!.. هل قمتُ بأذيتِكَ بأيِّ شيءٍ من قبلُ لتفعلَ هذا معي؟!”
“من السهلِ أنْ تجلسَ تندبُ حظَّكَ وتلطمَ خدودَكَ وتشكُيَ حالَكَ خلالَ خمسةٍ وأربعينَ يومًا ومن ثمَّ تموتَ.. ومن الأسهلِ أنْ تفعلَ ما تبرعُ بهِ وتجدَ ما أبحثُ عنهُ.. أليسَ هذا عملُكَ، أنْ تجدَ الأشياءَ المفقودةَ؟.. وأنا أُوعِدُكَ حينها بأنِّي سأُكافئُكَ بمبلغٍ لم تحلمْ بهِ طولَ عمرِكَ.”
بخيبةِ أملٍ شديدةٍ: “لا إلهَ إلا اللهُ.. أخبرني عن كتابِ الكنوزِ هذا.. أنا لم أسمعْ عنهُ طوالَ حياتي.. فُقِدَ متى وأينَ وكيفَ؟”
“أحسنتَ القولَ.. هكذا يكونُ الرجالُ.. تسألُ أسئلةً عمليةً بدلًا من أنْ تُضيِّعَ وقتَكَ بالبُكاءِ والنواحِ.. أنا لن أجعلَكَ تفقدُ وقتَكَ المُتبقِّي الثمينَ بأمورٍ ليسَ لها فائدةٌ.. كتابُ الكنوزِ كانَ بصحبةِ شخصٍ ما قبلَ أنْ يختفيَ فجأةً هو والكتابُ معًا، ولكنْ لا تقلقْ سوفَ أجعلُ كلَّ التفاصيلِ عن هذا الرجلِ تظهرُ أمامَ بابِ منزلِكَ قريبًا جدًّا.. وعندما تعلمُ من هو أُريدُكَ أنْ تتَّبعَ مكانَهُ حتى تصلَ إليهِ وتأتيَ لي بالكتابِ منهُ.”
حازمُ بضيقٍ شديدٍ: “كيفَ ستجعلُهُ يظهرُ أمامي؟.. أنا… أنا لا أفهمُ شيئًا ولكنْ يبدو أنَّكَ قمتَ بالتخطيطِ للأمرِ جيدًا.. أخبرني إذا استطعتُ الوصولَ إلى هذا الكتابِ، كيفَ سوفَ أتواصلُ معكَ بالتأكيدِ ليسَ عن طريقِ هذا الهاتفِ، أنتَ لن تفعلَ خطأً مثلَ هذا.”
“لا تقلقْ.. نحنُ سنتقابلُ وجهًا لوجهٍ قريبًا جدًّا، فأنا لستُ عدوَّكَ بل نحنُ نتعاونُ سويًّا للوصولِ للكتابِ، وأنا أثقُ كلَّ الثقةِ أنَّكَ لن تُحاولَ أنْ تُغضبَ الشخصَ الوحيدَ الذي من الممكنِ أنْ يُنقذَ حياتَكَ.. أستودعُكَ الآنَ.. ولنا لقاءٌ قريبٌ يا أغلى حبيبٍ.”
الخطُّ انقطعَ فجأةً، فصرخَ حازمُ بغضبٍ: “ألووو.. ألووو..”
ألقى الهاتفَ جانبَهُ بغضبٍ شديدٍ: “ما تلكَ المصيبةُ؟.. كتابُ كنوزٍ ماذا، وقائمُ زفتٍ على رأسِهِ؟.. ما هذهِ المصيبةُ التي وقعتُ بها يا ربي!!”
حاولَ حازمُ أنْ ينزعَ الخاتمَ من يدِهِ فلم يستطعْ وظلَّ يتألمُّ بشدةٍ، فصرخَ غاضبًا وهبَّ واقفًا من على الأريكةِ وهو يُحطِّمُ المنضدةَ أمامهُ بقدمِهِ وقامَ بتحطيمِ الأثاثِ حولَهُ وهو يُحاولُ أنْ ينفثَ غضبَهُ بكلِّ شيءٍ يُحيطُ بهِ.

ما الذي تعتقد سوف يحدث بعد ذلك في رواية كتاب الكنوز؟ ✍️ اكتب ماذا تعتقد في التعليقات حتى تقارن توقعاتك فيما بعد بما سيحدث! 👇

(تستطيع شراء الرواية من هنا)

5 1 vote
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
زر الذهاب إلى الأعلى
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x