
في كل مرة أجلس فيها أمام الورقة البيضاء أو شاشة الكمبيوتر الفارغة، أشعر وكأنني على وشك فتح باب سري يؤدي إلى عوالم لا متناهية. هل تساءلت يوماً عن السبب الذي يدفع إنساناً ما لأن يقضي ساعات طويلة في صمت، يحارب الكلمات ويصارع الأفكار، ليخرج في النهاية بنص قد يقرأه شخص واحد أو ألف شخص؟
أهلاً بكم أصدقائي الكتّاب والحالمين بالكتابة. أنا إسلام عبد الله، وبعد أكثر من 17 عاماً من العمل في مجال الكتابة الروائية وكتابة السيناريو، قررت أن أشارككم خلاصة تجاربي، صراعاتي، انتصاراتي، وحتى إخفاقاتي في هذا العالم الساحر والمعقد في آن واحد ونبدا بالسؤال الأول لماذا نكتب.
هذا هو المقال الأول في سلسلة شاملة عن فن الكتابة، سأنشرها على موقعي الشخصي لتكون متاحة لكل من يريد أن يبدأ رحلته مع الكلمة، أو يطور من مهاراته الحالية. لأننا جميعاً نتعلم من بعضنا البعض، وما تعلمته منكم عبر السنين لا يقل أهمية عما أستطيع أن أقدمه لكم اليوم.
Contents
أسرار لا يخبرك بها أحد عن عالم الكتابة
الدوافع المختلفة للكتابة: رحلة في أعماق النفس البشرية
عندما نتحدث عن دوافع الكتابة، فإننا نغوص في أعماق النفس البشرية ونكتشف طبقات معقدة من المشاعر والأفكار والرغبات. هذه الدوافع تتنوع وتختلف من كاتب لآخر، وأحياناً تتغير عند الكاتب نفسه مع مرور الوقت ونضجه الفكري والإبداعي.
الدوافع الشخصية: الحاجة للتعبير عن أنفسنا
يكتب البعض لأنهم يشعرون بحاجة ملحة للتعبير عن مشاعرهم وأفكارهم الداخلية. الكتابة بالنسبة لهم تشبه جلسة علاج نفسي، حيث يفرغون همومهم وأحلامهم على الورق. هؤلاء الكتّاب يجدون في الكتابة ملاذاً آمناً يمكنهم فيه أن يكونوا صادقين مع أنفسهم دون خوف من الحكم أو النقد.
كثيراً ما نجد في أعمال هؤلاء الكتّاب صدقاً عميقاً ونبرة شخصية مميزة، لأنها تنبع من تجارب حقيقية وألم أو فرح حقيقي. الكتابة هنا تصبح وسيلة للتطهر والشفاء، وأحياناً للانتقام الأدبي من ظروف قاسية عاشوها.
الدوافع الاجتماعية: الرغبة في التغيير والتأثير
فئة أخرى من الكتّاب تدفعها رغبة عميقة في تغيير المجتمع أو التأثير فيه. هؤلاء يرون في الكتابة سلاحاً قوياً يمكنه أن يحرك الوعي ويثير الأسئلة المهمة ويلفت الانتباه إلى قضايا مهملة أو مهمشة.
يكتب هؤلاء ليس فقط للتسلية أو الترفيه، بل ليزرعوا بذور التفكير في عقول القراء، ليجعلوهم يعيدون النظر في قناعاتهم أو سلوكياتهم. أعمالهم غالباً ما تحمل رسائل واضحة وتطرح قضايا اجتماعية أو سياسية أو بيئية بطريقة فنية مقنعة.
الدوافع الفنية: السعي وراء الجمال والكمال
وهناك من يكتب من أجل الفن نفسه. هؤلاء الكتّاب مفتونون بجمال اللغة وقدرتها على خلق عوالم كاملة من العدم. يقضون ساعات في صقل جملة واحدة، يبحثون عن الكلمة المثالية، يصممون إيقاع النص كما يصمم الموسيقي سيمفونيته.
بالنسبة لهم، الكتابة فن خالص، والهدف هو خلق شيء جميل يستحق أن يبقى. يهتمون بالأسلوب أحياناً أكثر من المضمون، ويسعون لخلق تجربة جمالية فريدة للقارئ.
قصص كتّاب مشهورين: كيف بدأت رحلتهم؟
عندما ننظر إلى قصص الكتّاب المشهورين، نجد أن معظمهم لم يولدوا كتّاباً، بل أصبحوا كذلك بسبب ظروف معينة أو دوافع قوية دفعتهم للكتابة.
خذ مثلاً الكاتب الكولومبي غابرييل غارثيا ماركيث، الذي بدأ الكتابة متأثراً بحكايات جدته التي كانت تروي له القصص الخيالية وكأنها حقائق مسلّم بها. هذا التمازج بين الواقع والخيال في طفولته أثّر على أسلوبه الفريد في الكتابة وساهم في ولادة تيار “الواقعية السحرية”.
أما الكاتب الإنجليزي تشارلز ديكنز، فقد بدأ الكتابة مدفوعاً بتجربته القاسية في طفولته، عندما اضطر للعمل في مصنع للأحذية وهو طفل صغير بسبب فقر العائلة. هذه التجربة جعلته حساساً لمعاناة الطبقات الفقيرة، وانعكس ذلك في جميع أعماله التي تنتقد الظلم الاجتماعي.
ستيفن كينغ بدأ يكتب لأن طفولته كانت مليئة بالخوف، وكانت قصص الرعب طريقه لفهم عالمه.
ج.ك. رولينج كتبت هاري بوتر لأنها، ببساطة، كانت أم عزباء تعاني من الفقر، ورأت أن العالم السحري في رأسها ربما يمنحها فرصة للحياة.
نجيب محفوظ كتب لأنه رأى أن الحارة المصرية عالم كامل يستحق أن يُخلّد.
كل كاتب لديه “نقطة شرارة” بدأت كل شيء.
هذه القصص تؤكد لنا أن الكتابة غالباً ما تولد من الحاجة، سواء كانت حاجة للتعبير أو للشفاء أو للتغيير أو حتى للهروب من واقع صعب.

تجربتي الشخصية: عندما يصبح الخيال عالماً موازياً
أما عن تجربتي الشخصية، فقد كنت منذ صغري شخصاً حالماً بطبيعتي. كنت أرى نفسي عائشاً في عالم موازٍ، أستمتع بخيالي وأكوّن فيه كل شيء أريده وأستمتع به، من شخصيات وأحداث وأصوات وتفاصيل لا متناهية.
هذا الخيال الضخم الذي كان يحتويني ويصنع لي عالماً مغايراً للعالم الرتيب الذي أعيش فيه، جعلني أشعر برغبة قوية في مشاركة الآخرين جزءاً من هذا العالم السحري. أردت أن أرسل للناس دعوات للعيش في العوالم التي برأسي لعدد معين من الساعات، أن أجعلهم يشعرون بما أشعر به، يرون ما أراه، يعيشون مغامرات لا يمكن أن يخوضوها في حياتهم العادية.
ولأنني حالم كبير والعوالم التي برأسي ضخمة ومعقدة، ستلاحظون أن معظم أعمالي تأتي في هيئة سلاسل. لأنني لا أحكي فقط عن عدة أشخاص وحياتهم، بل أحكي عن العالم الذي يعيش فيه أبطالي، والدوافع السياسية والاجتماعية والنفسية التي جعلتهم يخوضون صراعاتهم في هذا العالم بالشكل الذي نراه من خلالهم في الروايات.
هذا العالم المتشعب يحتاج إلى مساحة أكبر من رواية واحدة ليُحكى بالشكل المناسب. كل شخصية لها تاريخها، كل مكان له جغرافيته وقوانينه، كل صراع له جذوره العميقة التي تمتد لأجيال أحياناً.
من العالم الداخلي إلى العالم الورقي: رحلة الإبداع
السؤال المهم هنا: كيف ننقل هذه العوالم والأفكار والشخصيات من عالمنا المنفرد داخل رؤوسنا إلى العالم الورقي لنشارك القراء هذه العوالم ونخوض صراعاتها معاً؟
هذه عملية معقدة تتطلب مهارات متعددة. أولاً، نحتاج لأن نفهم عوالمنا الداخلية جيداً، أن نرسم خرائط دقيقة لها، أن نعرف قوانينها وحدودها. ثم نحتاج لأن نتعلم لغة الكتابة، كيف نترجم الصور الذهنية إلى كلمات، كيف نجعل القارئ يرى ما نراه ويشعر بما نشعر به.
الأمر يشبه كونك مترجماً بين عالمين، عالم اللاوعي والخيال، وعالم الوعي والكلمات. وكأي ترجمة، هناك أشياء تضيع في الطريق، وأشياء تكتسب معاني جديدة.
في السلسلة القادمة من المقالات، سنتحدث بالتفصيل عن هذه العملية، عن كيفية بناء الشخصيات التي تبدو حقيقية، عن كيفية خلق عوالم مقنعة، عن تقنيات السرد التي تجعل القارئ لا يستطيع أن يترك الكتاب من يده.
سنتحدث عن الأخطاء الشائعة التي يقع فيها الكتّاب الجدد، وعن الطرق العملية لتجاوز العقد الإبداعية. سنناقش الفرق بين كتابة الرواية وكتابة السيناريو، وكيف يمكن للكاتب أن يطور مهاراته في كلا المجالين.
دعوة للتأمل والمشاركة
والآن أريد أن أسألك سؤالاً مهماً: هل ترى أن لديك عالماً في رأسك يستحق أن تطلع العالم حولك عليه؟ هل تشعر أحياناً بأن لديك قصصاً تريد أن تحكيها، أو رسائل تريد أن توصلها، أو مشاعر تريد أن تشاركها؟
إذا كانت الإجابة نعم، فأنت تحمل بداخلك كاتباً ينتظر أن يولد. قد تكون في بداية الطريق، وقد تشعر بأن الطريق طويل ومعقد، لكن تذكر أن كل كاتب عظيم بدأ بكلمة واحدة، بفكرة واحدة، بحلم واحد.
الكتابة ليست مجرد مهنة أو هواية، إنها طريقة للعيش، طريقة لفهم العالم والتعامل معه. إنها جسر نبنيه بين عوالمنا الداخلية والعالم الخارجي، بين أحلامنا وأحلام الآخرين.
في المقال القادم، سنتحدث عن “كيف تجد صوتك الكتابي الفريد”، وسنناقش الطرق العملية لاكتشاف أسلوبك الخاص والتمييز بين التأثر والتقليد.
أريد منك أن تشاركني في التعليقات: ما هو الدافع الذي يجعلك تريد أن تكتب؟ هل هو للتعبير عن النفس، أم للتأثير في المجتمع، أم لحب الفن نفسه؟ أم ربما لديك دافع مختلف تماماً؟
شاركني تجربتك، حتى لو كانت مجرد فكرة أو حلم لم تحققه بعد. لأن كل حلم يستحق أن يُحكى، وكل قصة تستحق أن تُروى.
لقراءة مقال أخر هل الكتابة عملية مؤلمة؟
المصادر والمراجع
- “On Writing: A Memoir of the Craft” by Stephen King – دراسة شاملة عن دوافع الكتابة والعملية الإبداعية من منظور أحد أشهر الكتّاب المعاصرين، حيث يستكشف King العلاقة بين التجربة الشخصية والإبداع الأدبي. رابط المصدر
- “The Writer’s Journey: Mythic Structure for Writers” by Christopher Vogler – تحليل عميق لأنماط السرد الأساسية ودوافع الكتّاب عبر التاريخ، مع دراسة مقارنة للأساطير والحكايات الشعبية كمصدر إلهام للكتابة المعاصرة. رابط المصدر
- Writer’s Digest – The Complete Guide to Writing Motivation – مصدر شامل ومتجدد لتقنيات الكتابة ودوافع الكتّاب، يقدم نصائح عملية من خبراء الكتابة والنشر حول العالم. رابط المصدر
الأسئلة الشائعة (FAQ)
لماذ نكتب ؟ ما هي الدوافع الرئيسية للكتابة؟
الدوافع الرئيسية للكتابة تشمل: الدوافع الشخصية (التعبير عن النفس والشفاء النفسي)، الدوافع الاجتماعية (التأثير في المجتمع وإحداث التغيير)، والدوافع الفنية (السعي وراء الجمال الأدبي والكمال الفني). كل كاتب يجد في هذه الدوافع مزيجاً فريداً يحركه نحو الإبداع.
كيف بدأ الكتّاب المشهورون رحلتهم في الكتابة؟
معظم الكتّاب المشهورين بدأوا الكتابة بسبب تجارب شخصية قوية أو ظروف حياتية مؤثرة. غابرييل غارسيا ماركيث تأثر بحكايات جدته، تشارلز ديكنز بدأ بسبب تجربة الفقر في طفولته. هذا يؤكد أن الكتابة غالباً ما تولد من الحاجة العميقة للتعبير.
كيف يمكن للكاتب المبتدئ اكتشاف دافعه للكتابة؟
يمكن للكاتب المبتدئ اكتشاف دافعه من خلال التأمل في تجاربه الشخصية والأسئلة التي تشغل باله. هل يريد التعبير عن مشاعره؟ أم يسعى لتغيير شيء في المجتمع؟ أم يحب جمال اللغة نفسها؟ الإجابة على هذه الأسئلة تساعد في تحديد الاتجاه الكتابي المناسب.
ما الفرق بين الدوافع الشخصية والاجتماعية في الكتابة؟
الدوافع الشخصية تركز على احتياجات الكاتب الداخلية مثل التعبير عن النفس والشفاء النفسي، بينما الدوافع الاجتماعية تهدف للتأثير في المجتمع وإحداث التغيير. الكتابة الشخصية تكون أكثر ذاتية وصدقاً، بينما الكتابة الاجتماعية تحمل رسائل واضحة وتطرح قضايا مجتمعية.
كيف يؤثر الخيال على دوافع الكتابة؟
الخيال الواسع يخلق عوالم داخلية غنية تدفع الكاتب لمشاركتها مع الآخرين. الكتّاب ذوو الخيال الضخم، مثل كاتب هذا المقال إسلام عبد الله، يجدون أنفسهم مدفوعين لترجمة هذه العوالم الذهنية إلى أعمال أدبية، خاصة في شكل سلاسل تتيح استكشاف تعقيدات هذه العوالم بعمق.
لماذا يكتب معظم الكتّاب أعمالاً طويلة أو سلاسل؟
الكتّاب الذين يمتلكون خيالاً واسعاً وعوالم معقدة يحتاجون لمساحة أكبر لحكاية قصصهم. السلاسل تتيح لهم استكشاف الشخصيات بعمق، وبناء عوالم مفصلة، وتطوير الصراعات بطريقة مقنعة. هذا النوع من الكتابة يتطلب فهماً عميقاً للدوافع السياسية والاجتماعية والنفسية للشخصيات.
إسلام عبد الله – كاتب روائي وسيناريست
للمزيد من المقالات في هذه السلسلة، تابعوا موقعي الشخصي