الحلقة الأولى من حرب البهادرا
حرب البهادرا
رواية التشويق والإثارة المميزة للكاتب إسلام عبدالله
(البداية)
زحامٌ شديدٌ بإحدى عربات المترو المكتظةِ براكبيها. كان الوجومُ والضيقُ هما السِّمةَ الحاضرةَ فوق الوجوهِ من هذا الاختناقِ الشديدِ. كان الجميعُ لا يجدُ له موضعَ قدمٍ للوقوفِ، ناهيكَ عن الحركةِ. ووسطَ كلِّ ذلكَ كان هناكَ رجلٌ ينسلُّ بينَ كلِّ تلكَ الجموعِ كالسَّمكةِ الصغيرةِ بوسطِ الماءِ. كان يتحرَّكُ بسرعةٍ وخِفَّةٍ شديدةٍ لا يضاهيها إلا سرعةُ يدِهِ وهي تخترقُ حقيبةَ سيدةٍ غافلةٍ وتسحبُ منها هاتفَها النَّقَّالَ دونَ أن تشعرَ. لحظةً واحدةً وكان يضعُ الهاتفَ بملابسهِ ويتَّجهُ إلى شخصٍ آخرَ ليقفَ خلفَهُ لعدةِ لحظاتٍ يتابعهُ وهو يتصفَّحُ هاتفَهُ، وعندما وجدَ الرجلَ يبتسمُ إلى أحدِ المنشوراتِ كان هو أيضًا يبتسمُ وهو يحملُ محفظتَهُ بينَ يديهِ وينطلقُ مُسرعًا جهةَ ضحيةٍ أخرى. دقَّقَ بوجوهِ الرُّكَّابِ سريعًا بنظراتٍ فاحصةٍ مُتَمَحِّصةٍ ليلتقطَ بعينِهِ الخبيرةِ شابًّا يبدو على ملامحِهِ أنَّهُ غارقٌ بالتفكيرِ والشُّرودِ الشديدِ. وهنا علمَ أنَّهُ وجدَ ضالَّتَهُ فاتَّجهَ صوبَهُ مُسرعًا ثم دفعَهُ بِكَتِفِهِ برفقٍ، ثم وضعَ يدَهُ بجيبِهِ وأخرجَ محفظةً وهبَّ مُبتعدًا، ولكنَّهُ تفاجأَ بوجودِ شيءٍ يتعلَّقُ بيدِهِ وبها المحفظةُ. نظرَ خلفَهُ مُضطربًا مذهولًا ليجدَ الشابَّ يبتسمُ لهُ وهو يمسكُ بيدِهِ محفظتَهُ وهي شاهدةٌ على جرمِهِ المشهودِ. تملَّكَ الذُّعرُ وجهَ اللِّصِّ فأخرجَ من وسطِ ملابسِهِ بيدِهِ الأخرى مطواةً وفتحَها بسرعةٍ وبمهارةٍ شديدةٍ. ضحكَ الشابُّ أمامَهُ ثم حدَّثَهُ بثقةٍ: «ماتخافش.. مش هقول لحد إنك حرامي.. ده أنا هكافأك وآديلك 500 جنيه لو عملت اللي قولتلك عليه..»
اللِّصُّ فَرِحًا: 500 جنيه.. عايزني أعمل إيه؟
الشابُّ مبتسمًا بثقة: حاجة بسيطة جدًّا.. هتفجر المترو..

بأحدِ شوارعِ القاهرةِ العتيقةِ، ووسطَ الزِّحامِ، وبينَ الطُّرُقاتِ كان هناكَ سائقُ سيارةِ أُجرةٍ في أوائلِ الخمسينياتِ يقودُ سيارةً ومُسَجِّلُهُ يصدحُ بإحدى أغاني أمِّ كلثومَ الشهيرةِ. وأخذَ السائقُ يُحرِّكُ يديهِ مندمجًا وهو يُدَنْدِنُ كلماتِ الأغنيةِ بعشقٍ شديدٍ وهو ينظرُ من خلفِ الزُّجاجِ إلى الزبائنِ وهي تُشيرُ إليهِ وهو ينتقيهم، ومَنْ لا يروقُ لهُ يتركُهُ سريعًا بعدمِ اهتمامٍ. نظرَ سريعًا إلى سيدةٍ بدينةٍ وهي تحملُ حقيبةً ضخمةً وتُشيرُ لهُ بأن يقفَ لها. تطلَّعَ إليها سريعًا، ثم حدَّثَ نفسَهُ مُتَأفِّفًا: «لا دي تخينة قوي وأنا لسه مغيَّر العفشة قريب.» تركَ السَّيِّدةَ وانطلقَ بسيارتهِ سريعًا يخترقُ الشوارعَ بحثًا عن غايتهِ. لمحَ شابًّا وسيدةً تقفُ بجوارِهِ فحدَّثَ نفسَهُ بعدَ أن عاينَهُما جيدًا: «نجيب دول.. دول خُفاف حلوين..» توقفَ بسيارتهِ أمامهما، فحدَّثَهُ الشابُّ مُتَرَجِّيًا: «معلش يا أسطى ممكن تاخدني أنا ووالدتي لعابدين..» أخذَ السائقُ يُداعِبُ ذقنَهُ في تردُّدٍ للحظاتٍ: «عابدين.. عابدين.. اركب تعالى..» انتابَ الشابَّ الفرحُ الشديدُ ونادى على أُمِّهِ التي أتت مُسرعةً: «تعالي يا حاجَّة.. وافق خلاص..» أخذتِ السيدةُ تصدحُ لهُ بالدعاءِ: «ربنا يكرمهُ يا ابني ويوسع رزقه..» واقتربتْ من بابِ السيارةِ الخلفيِّ وشاهدتْ شيئًا بداخلِ السيارةِ، فضربتْ صدرَها مصدومةً، وسحبتْ يدَ ابنِها بسرعةٍ وركضتْ بعيدًا: «يالهوي.. يالهوي.. يلا يا ابني من هنا.. يالهوي.. يالهوي ..» شاهَدَ السائقُ ردَّ فعلِها المذعورِ وهي تبتعدُ هي وابنُها مندهشًا ثم صرخَ بهما غاضبًا: «مشيت ليه بنت المجنونة دي.. تصدقي أنا غلطان وأستاهل ضرب الجزمة علشان وافقت إني أوصلكم يا زباين هَمّ.. يا ولاد…» تحرَّكَ بسيارتهِ سريعًا وهو غاضبٌ من تصرُّفِ المرأةِ، وأخذَ يسبُّ ويلعنُ بها طوالَ الطريقِ. بعدَ عدةِ أمتارٍ وقفتْ فتاةٌ جميلةٌ وأشارتْ إليهِ أن يتوقفَ. نظرَ لها مبتسمًا ووقفَ بسيارتهِ أمامَها: «أيوه كده.. هى دي الزباين اللي تفتح النِّفْس.. على فين ياهانم؟» أجابتهُ الفتاةُ سريعًا: «مصر الجديدة..» ابتسمَ لها السائقُ: «والله لو رايحة السلوم لوصلك.. اركبي يلا..» ابتسمتْ لهُ الفتاةُ، ثم توجهتْ لفتحِ بابِ السيارةِ الخلفيِّ لتركبَ، وهنا شاهدتْ شيئًا في الخلفِ، فتركتِ البابَ مفتوحًا وأخذتْ تصرخُ مذعورةً وهي تمسكُ رأسَها: «اااااااااااه..» في لحظاتٍ بسيطةٍ تجمعَ المارةُ حولَ سيارةِ الأُجرةِ ومنعوها من التحركِ في ظِلِّ تعجُّبِ السائقِ وهو يُحدِّثُها مذعورًا: «في إيه ياهانم.. في إيه؟» اقتربَ أحدُ الفضوليينَ من الفتاةِ وهو يسألُها ماذا حدثَ، فأشارتِ الفتاةُ إلى المقعدِ الخلفيِّ للسيارةِ، وهنا تجمعَ الناسُ واقتربوا من مقعدِ السيارةِ ليظهرَ لهم جميعًا رجلٌ مطعونٌ بالسِّكِّينِ في صدرِهِ ومُمدَّدٌ على الكنبةِ الخلفيةِ للسيارةِ. حدثتْ جلبةٌ وصُراخٌ وزعيقٌ من الجموعِ حولَ سيارةِ الأُجرةِ، وأخرجوا السائقَ منها وهمُّوا بطلبِ الشُّرطةِ.
****
بوسطِ لهيبِ الصحراءِ الواسعةِ وبحارِ الرِّمالِ المتأجِّجةِ جلسَ وحيدًا يُداعِبُ ذَقْنَهُ بيدِهِ اليسرى وهو يضطجعُ على جانبِهِ الأيمنِ يترقَّبُ ما سيسفرُ عنهُ صراعُ ذكرينِ ضخمينِ من الكباشِ الثمينةِ يناطحانِ بعضَهُما بقرونِهِما الحادَّةِ بقوةٍ وبعنفٍ وسطَ قطيعِ الحُمْلانِ غيرِ المُكترثةِ بما يفعلُ الكبشانِ، كلُّ ما فعلوهُ أنَّهم ابتعدوا قليلاً ليُخلوا الساحةَ للغريمينِ ليتنافسا بِحُرِّيَّةٍ أكثرَ. ظلَّ الراعي يُراقبُ الكبشينِ وهُما يتباعدانِ عن بعضِهِما ومن ثمَّ يتناطحانِ من جديدٍ بكلِّ قوةٍ وعزمٍ ولم يوقفهُما أو يُحرِّكَ ساكنًا من أجلِهِما واكتفى بمتابعةِ تلكَ الإثارةِ الرخيصةِ المتوفرةِ أمامَهُ؛ فلا يوجدُ بديلٌ آخرُ لكي يُسلِّيَ وقتَهُ حتى انتهاءِ الحُمْلانِ من الرعيِ سوى بتلكَ المشاهدِ أو مُحاولاتِهِ النادرةِ بإبعادِ الأُسودِ أو الذئابِ عن قطيعِهِ الكبيرِ هذا. قطعَ إثارتَهُ المحدودةَ تلكَ ثلاثةُ أشخاصٍ يرتدون الزِّيَّ البدويَّ ويُشهرونَ سيوفَهُمْ وهم يمتطونَ ظهورَ خيولِهم الضخمةِ القويةِ ويشقُّونَ غبارَ الصحراءِ بطريقِهم جهتهُ، بثقةٍ وتحدٍّ. شعرَ الراعي بدنوِّ الخطرِ فقفزَ من مكانِهِ مُتَأبِّطًا سيفَهُ بالحالِ، وأخذَ يترقَّبُ وصولَ الفرسانِ صوبَهُ، وعندَ اقترابِهم شهرَ سيفَهُ بالتوِّ وعندَها توقفَ الفرسانُ على بُعدٍ منهُ فصرخَ عليهم بالحالِ: لِمَ أتيتُم إلى هنا أيُّها الحَمقى؟ ألا تعلمونَ مَنْ أنا؟ ضحكَ الفرسانُ بالحالِ ساخرينَ منهُ، وصرخَ أحدُهُمْ عليهِ بتحدٍّ: بل نعلمُ من أنتَ جيدًا، ولهذا جئنا طلبًا لرأسِكَ أيُّها العبدُ الأسودُ. هُنا اذبهلَّ الرجلُ مصدومًا وهو يُحدِّثُ نفسَهُ غيرَ مُصدِّقٍ: ماذا؟ عبدٌ أسودُ؟ أنا عبدٌ؟ أنا أسودُ؟ قالَها وهو يُقلِّبُ سيفَهُ بيدِهِ ليجدَ انعكاسًا لصورةٍ على عرضِ سيفِهِ ليجدَ نفسَهُ بالفعلِ يرتدي ملابسَ العبيدِ المُمزَّقةِ ووجهَهُ أسودُ شديدُ القتامةِ. صرخَ الراعي بفزعٍ شديدٍ وألقى بسيفِهِ بعيدًا وأمسكَ رأسَهُ وهو يتحسَّسُ ملامحَ وجهِهِ بيدِهِ ويصرخُ بصدمةٍ شديدةٍ: أنا.. أنا عبدٌ.. أنا أسودُ.. كيفَ؟ كيفَ؟ جاءَهُ الرَّدُّ سريعًا من أحدِ الفرسانِ وهو يركضُ جهتهُ بحصانِهِ المغوارِ ويحملُ سيفَهُ بتحفُّزٍ ويضحكُ بشدةٍ وهو يصرخُ على الراعي: هل جُنِنْتَ يا عبدَ السَّوءِ لكي تُلقيَ بحُسامِكَ أمامي؟ إنَّ رأسَكَ لي الآنَ. وهبَّ سريعًا بسيفِهِ على رأسِ الراعي فانتزعَها بسيفِهِ من فوقِ جسدِهِ وسقطتْ على الأرضِ بالحالِ. آخرُ ما شاهدَهُ الراعي بحياتِهِ كان جسدَهُ الضخمَ وهو يهوي على الأرضِ بدونِ رأسٍ أمامَهُ. صرخَ بفزعٍ شديدٍ: أنا… ولكنَّهُ وجدَ نفسَهُ لا يستطيعُ التحركَ. حاولَ أن يتحدثَ فلم يستطعْ أيضًا. ظلَّ يصرخُ ويصرخُ ولكن لم يخرجْ صوتُهُ أبدًا. ظلَّ يُحاولُ ويُحاولُ بدونِ أيِّ جدوًى. صرخَ بأقصى قوةٍ لديهِ وهو يتحاولُ أن يتحرَّكَ بيأسٍ شديدٍ فلم يستطعْ أيضًا. هُنا أيقنَ ما حدثَ. إنَّهُ الموتُ. إذًا هو ميِّتٌ الآنَ. هل حياتُهُ انتهتْ؟ هل انتهتْ هكذا بلحظاتٍ؟ هل سينتهي وجودُهُ هكذا من الحياةِ؟ لالالالا.. لالالالا.. لالالالالالا.. قالَها وهو يصرخُ بأقصى طاقتِهِ، وهنا وجدَ نفسَهُ قد تحرَّكَ فجأةً. تحسَّسَ رأسَهُ فوجدَها بمكانِها. شعرَ بالاندهشِ. تحسَّسَ جسدَهُ بلهفةٍ فوجدَ كلَّ شيءٍ طبيعيًّا ما زالتْ رأسُهُ وجسدُهُ مُتشابكينِ مع بعضِهِما. حدَّثَ نفسَهُ مُندهشًا: ماذا؟ أنا لم أمُتْ؟ نظرَ حولَهُ بسرعةٍ فلم يجدْ نفسَهُ بالصحراءِ ولا بجوارِ قطيعِ الأغنامِ. إنَّما يجلسُ على أريكتِهِ الزرقاءِ الكبيرةِ المريحةِ بغرفةِ المعيشةِ، وأمامَهُ تلفازُهُ الكبيرُ الذي ما زالَ يعملُ ويعرضُ مشهدًا للممثلِ فريد شوقي وهو يحملُ جذعَ نَخلٍ كبيرًا وهو يدهنُ جسدَهُ باللونِ الأسودِ ويطيحُ برجالِ القبائلِ حولَهُ بجذعِ النخلةِ كما يُطيحُ أدهم صبري بمنافسيهِ بدونِ أيِّ مجهودٍ يُذكرُ. هُنا ابتسمَ يحيى كاملٌ وهو ينظرُ للتلفازِ وتذكَّرَ بأنَّهُ غطَّ بالنومِ، وأنَّ ما شاهدَهُ منذُ قليلٍ كان مجردَ حُلمٍ عايشهُ مُتأثرًا بمشاهدةِ التلفازِ. أغلقَ التلفازَ وهو يضحكُ من نفسِهِ ساخرًا وهو يُحرِّكُ رأسَهُ غيرَ مُصدِّقٍ بأنَّهُ كان يحلمُ بأنَّهُ عنترةُ بنُ شدادٍ، ولكن عكسَ ما كان يشاهدُهُ يُقاتلُ وينتصرُ على الجميعِ، أما هو فقد ماتَ بالحالِ بأولِ مُواجهةٍ. تمدَّدَ مرةً أخرى بجسدِهِ على أريكتِهِ المحبوبةِ، وأخرجَ تنهيدةً مُحمَّلةً بزفيرٍ كبيرٍ من رئتيهِ وهمَّ بأخذِ استراحةٍ قصيرةٍ وهو يُغلقُ عينيهِ وهو لا يعلمُ لماذا يفعلُ هذا دائمًا عندما يستيقظُ فيُحاولُ أن ينامَ مرةً أخرى، ولكنَّهُ دائمًا ما يستيقظُ بعدَ عشرِ ثوانٍ بَعدَ أن تكونَ رأسُهُ قد امتلأتْ بجميعِ أفكارِ ومشاكلِ العالمِ بتلكَ الثواني. تحسَّسَ بقدمِهِ اليمنى، شيءٌ معدنيٌّ غريبٌ أسفلَ قدمِهِ فاعتدلَ بجلستِهِ واتَّجهَ إلى هذا الشيءِ أسفلَهُ ومدَّ يدَهُ بأعماقِ أعماقِ أريكتِهِ ليجدَها بالنهايةِ ويُخرجَها ليجدَها عبوةَ مياهٍ غازيةٍ معدنيةٍ قد قامَ بشُربِها بمساءِ الأمسِ مع بعضِ قطعِ العيشِ الفينو الطازجةِ المختلطةِ بقطعِ الجبنِ النستو أمامَ التلفازِ. فوضعَها يحيى أمامَهُ على المائدةِ وهو ينظرُ حولَهُ فوجدَ غرفةَ المعيشةِ مُمتلئةً بالنُّفاياتِ والأوساخِ فشعرَ بتأنيبِ الضميرِ لأنَّهُ تسبَّبَ بهذهِ الكميةِ الكبيرةِ من الأوساخِ وقامَ سريعًا بحملِ سلَّةِ المُهملاتِ المتواجدةِ بأسفلِ أحدِ المقاعدِ بغرفةِ المعيشةِ وهمَّ بالتقاطِ مُخلَّفاتِهِ قبلَ أن تستيقظَ زوجتُهُ سمرُ وتبدأَ بسردِ خطبتِها المعتادةِ عن النظافةِ، وأنَّهُ يجبُ أن يكونَ المرءُ نظيفًا وهَلُمَّ جرًّا لآخرِ الحديثِ الذي سئمَ سماعهُ. انتهى يحيى من جمعِ المُخلَّفاتِ وتعجَّبَ من مشاهدةِ غرفةِ المعيشةِ التي أصبحتْ نظيفةً بلحظةٍ، وبدأَ يشعرُ بالمتعةِ التي تشعرُ بها النساءُ بعدَ أن ينتهينَ من نظافةِ أيِّ شيءٍ. وضعَ سلَّةَ المُهملاتِ جانبًا واتَّجهَ إلى غرفةِ نومِهِ ليرى زوجتَهُ سمرَ، وفتحَ البابَ برفقٍ لأنَّهُ كان يتوقعُ أنَّها ما زالتْ نائمةً ولكنَّهُ تفاجأَ بأنَّها ليستْ بغرفتِها وأنَّ السريرَ لم يُمَسَّ أيْ إنَّها لم تنمْ بغرفتِها بالأمسِ. هُنا علمَ وِجهتَها بالحالِ فأغلقَ بابَ غرفةِ نومِهِ واتَّجهَ إلى غرفةٍ صغيرةٍ بنهايةِ الممرِّ الأيمنِ من غرفةِ المعيشةِ ليفتحَ بابَ غرفةِ نومِ ابنِهِما الصغيرِ مروانَ ذي الثلاثةِ أعوامٍ، ففتحَ بابَها برفقٍ ليجدَ أمامَهُ زوجةَ سمرَ وهي نائمةٌ وهي جالسةٌ بجوارِ ابنِها مروانَ النائمِ بعمقٍ على سريرِهِ وبجوارِهم على الكومودِ الكثيرُ من علبِ الأدويةِ وبعضُ أطباقِ الطعامِ بها بقايا كثيرةٌ. اعتصرَ هذا المشهدُ قلبَهُ وهو يرى زوجتَهُ راقدةً بجوارِ ابنِهِ المريضِ وهو لا يستطيعُ أن يُوفِّرَ لهُمْ مكانًا جيدًا بإحدى المستشفياتِ الاستثماريةِ ذاتِ الأجنحةِ الفندقيةِ فابتلعَ امتعاضَهُ بأسىً وجلسَ على مقعدٍ صغيرٍ بجوارِ الحائطِ وظلَّ يرقبُ زوجتَهُ وابنَهُ بصمتٍ. ظلَّ يُدقِّقُ بملامحِ زوجتِهِ وهي نائمةٌ بهدوءٍ واندهشَ لدى مُلاحظتِهِ لتفاصيلَ جديدةٍ بوجهِها. فملامحُ سمرَ اختلفتْ كثيرًا بعدَ أن تزوجتهُ. لم يعلمْ لماذا لم يشعرْ بهذا التغيرِ المُفاجئِ بوجهِها. هل يعقلُ بأنَّ الإنسانَ عندما يُشاهدُ الشيءَ مرارًا وتكرارًا يتغافلُ بعدَ ذلكَ عن تفاصيلِهِ؟ إنَّ هذا لشيءٌ عجيبٌ. تطرَّقَ بناظرِهِ إلى جسدِ زوجتِهِ، ظنَّ أنَّهُ أصبحَ ضخمًا وبدينًا. كيفَ لسمرَ تلكَ الغزالِ الرشيقِ التي كان دائمًا ما يحلمُ بأن يتملَّكَ هذا الجسدَ بيومٍ من الأيامِ وأن يظفرَ بإحساسِ تواجدِهِ بينَ أحضانِهِ تحوَّلَ إلى هذهِ الكتلِ الهلاميةِ من اللحمِ والشحومِ بعدَ أربعةِ أعوامٍ فقط من الزواجِ؟ هل يعقلُ أن تُغيِّرَ تلكَ السِّنونُ من البشرِ بهذهِ السرعةِ؟ عقلُهُ دخلَ بمقارنةٍ سريعةٍ ما بينَ جسدِ زوجتِهِ سمرَ ومديحةَ الفتاةِ الشابةِ التي معهُ بالعملِ. وبالطبعِ اكتسحَ جسدُ مديحةَ تلكَ المُقارنةَ بكلِّ سهولةٍ، ولكنَّهُ طردَ تلكَ الأفكارَ سريعًا عندما لاحظَ بروزَ نتوءٍ كبيرٍ من بطنِهِ بمقياسِ خمسةِ سم أو أكثرَ ليُذكِّرَهُ بأنَّ تلكَ السِّنينَ التي طالتْ زوجتَهُ قد طالتْهُ هو أيضًا فلا داعيَ لذِكرِ تلكَ المُقارنةِ لأنَّهُ إذا وُضِعَ مع مُقارنةٍ بأيِّ شخصٍ آخرَ لن تكونَ لهُ الغلبةُ بالغالبِ. وقفَ مُتنهِّدًا وهو يصفعُ بيدِهِ كرشَ «العزِّ وأكلِ الوزِّ» كما يُحبُّ أن يُطلقَ عليهِ وتوجهَ إلى السريرِ الصغيرِ ليطبعَ قُبلةً على وجنةِ ابنِهِ مروانَ، ولكنَّهُ توقفَ بالحالِ عندما ترامَتْ إلى أنفِهِ رائحةٌ كريهةٌ تخرجُ من جسدِ الصغيرِ فابتعدَ عنهُ مُسرعًا وهو ينفضُ رأسَهُ حتى لا يفقدَ وعيَهُ وهو ينظرُ إلى طفلِهِ الصغيرِ مُندهشًا كيفَ لهذا الكائنِ الصغيرِ المُحمَّلِ بالمُخلَّفاتِ والمشاكلِ والرَّوائحِ الكريهةِ أن يجعلَنا نفعلُ المُستحيلَ لكي نرى ابتسامةً على وجهِ الصغيرِ أو نظرةَ رضا من عينيهِ الناعستينِ؟ كيفَ لهذا الشيءِ أن يجعلَ شخصينِ بالغينِ مثلي ومثلَ أُمِّهِ أن لا يستطيعا النومَ بحريةٍ وبدونِ قلقٍ إذا ما أصابَهُ حُمَّى أو رَشْحٌ صغيرٌ؟ كيفَ أنَّهُ لم يهنأْ هو وزوجتُهُ براحةِ بالٍ عندما اكتشفَ أنَّ مروانَ الصغيرَ هذا مُصابٌ بثقبٍ بقلبِهِ اليافعِ، وأنَّهُ لا يستطيعُ أن يركضَ أو يلعبَ بحريةٍ مثلَ أقرانِهِ لأنَّنا نخافُ عليهِ أن يبذلَ أيَّ مجهودٍ شاقٍّ حتى لا يكونَ بهذا نهايةُ حياتِهِ القصيرةِ؟ أخذَ يحيى ينظرُ إلى مروانَ بأسىً وهو يتأملُ ذلكَ الجسدَ الضئيلَ وتلكَ الأقدامَ والأيديَ الشبيهةَ بأقدامِ السَّناجبِ ووجهَهُ الأبيضَ الجميلَ الذي يحملُ شِفاهًا صغيرةً بلونِ الفراولةِ الحمراءِ التي تجعلُكَ حينما تراها ترغبُ بالتهامِها وأنفَهُ الصغيرَ التي تحملُ أنفاسَهُ المعدودةَ من تلكَ الدنيا. مشهدٌ رائعٌ يتمنى أن يراهُ كلُّ أبٍ دائمًا وهو يُشاهدُ أطفالَهُ ينامونَ بهدوءٍ وراحةِ بالٍ. لم يتحملْ يحيى من مُقاومةِ تلكَ اللطافةِ الزائدةِ فأخذَ نفسًا عميقًا وأغلقَ أنفَهُ وطبعَ قُبلةً على جبينِ مروانَ الصغيرِ فتفاجأَ يحيى باستيقاظِ سمرَ وهي فزعةٌ وتنظرُ لهُ مُندهشةً، فطمأنَها وهو يبتسمُ «ماتخافيش يا سمرُ ده أنا». نظرتْ لهُ بعينٍ ناعسةٍ: «يحيى.. هو أنتَ صحيتَ؟» «آه.. شكلي نمتُ على الكنبةِ إمبارح وأنا بتفرجُ على التلفزيونِ.. إنتِ نمتِ جنبَ مروانَ إمبارح..» «آه.. أصلُهُ كان تعبانَ وسخنَ شويةً.. ففضلتُ جنبهُ طولَ الليلِ وشكلي رحتُ في النومِ..» «طيِّب أنا هاروحُ أعملُ لكُمْ أيَّ حاجةٍ تاكلوها». حاولَ أن ينصرفَ من الغرفةِ سريعًا فأوقفتْهُ سمرُ سريعًا وسألتْهُ بحدةٍ: «رحتَ لخالِكَ إمبارح يا يحيى؟» شعرَ يحيى بالاضطرابِ وتنهَّدَ بضيقٍ وحدثَها وهو ما زالَ يُعطي لها ظهرَهُ: «أيوه.. رحتُ لهُ..» «وقالك إيه؟ هيدِّيكَ الفلوسَ؟» التفتَ يحيى جهتها ببطءٍ وهو يُطأطئُ رأسَهُ وحدثَها بنبرةٍ خجلةٍ دونَ أن ينظرَ لها: «قالي.. إنَّ ابنَهُ خلاص هيتجوزُ بعدَ شهرينِ وإنَّهُ بيجهزُ في شقتِهِ دلوقتي ومحتاجُ لكلِّ قرشٍ معَهُ حاليًا، وإنَّهُ مش هيقدرُ يديني المبلغَ الكبيرَ اللي أنا طالبُهُ». بغضبٍ: «يعني إيه؟ مش هيدِّيكَ الفلوسَ؟ ده هو كان الأملَ الوحيدَ اللي أنتَ كنتَ مُعتمدًا عليه. هانجيب منين 250 ألف نعمل بيها العملية لمروان؟!». أجابها يحيى مُضطربًا: «يا سمر.. لسه قدامنا وقت طويل ندبِّر فيه المبلغ.. العملية مش ضروري تتعمل بكرة يعني.. طالما واخدين بالنا من مروان مش هيحصله حاجة إن شاء الله».
«يعني إيه؟ عايزْنَا مانعملش العملية؟ وأفضل عايشة طول عمري خايفة على ابني يجري ولَّا يلعب زَيُّه زي باقي الأطفال التانين.. ولو صبرت سنة ولا سنتين تاني زي ما أنت عايز ولا قدَّر الله مروان تعب واحتاج يعمل العملية الـ 250 ألف اللي مش عارفين نجيبهم دلوقتي هيبقوا مليون واتنين وإحنا في بلد مالهاش كبير يا يحيى كل اللي عايز يغلِّي حاجة يغليها ولا في رقيب ولا مجيب ساعتها هتعمل إيه يا يحيى؟». صمت يحيى قليلاً وهو يحاول أن يرد على حديثها المنطقي الذي يحمل الكثير من الوجاهة فلم يستطع.. فاكتفى بأن أومأ برأسه لها مُطمئنًا: «ماتخافيش يا سمر.. أنا هتصرف.. أنا هاعمل أقصى ما في وسعي علشان أجيب فلوس العملية لمروان». وقفت أمامه سمر غاضبة وهي تصرخ بوجهه: «هتعمل ما في وسعك؟ ماهو أنت السبب في اللي حصلنا من الأول.. كنت عايز تبقى بطل ويقولوا عليك الإنسان الخير الملاك في دنيا البشر بيقطعوا بعضيهم علشان الجنيه.. عملت فيها صاحب مبادئ وقيم حضرتك وضحيت بالملايين وبعيشة كريمة ليك ولمراتك وابنك كل ده علشان الناس الغريبة اللي ماحدِّش فيهم فكر ولا هيفكر يساعدك أو يساعد ابنك المريض ده». نظر لها يحيى غاضبًا مُمتعضًا وهو يصرخ بنفسه من داخله.. ها هي مرة أخرى تذكِّره بذلك الأمر من جديد لكي تهينه وتجعله يشعر بغبائه وعدم قدرته على تحليل الأمور.. إنها تذكره بما حدث معه من قبل مع أنه لم ينسَه أبدًا.. غضبه الشديد جعله يريد أن يهمَّ بالصراخ عليها هي أيضًا ومبادلتها ذِكر عيوبها هي أيضًا.. فجميع البشر لا يخلون من العيوب وسمر زوجته بالذات تحمل منها الكثير.. ولكنه تراجع باللحظة الأخيرة وأخذ يبتلع امتعاضه وغضبه بداخله واكتفى بالنظر إلى مروان الصغير وهو نائم وترك زوجته تتابع حديثها الغاضب وملامتها الدائمة له وظلت سمر تتابع إطلاق نيران لسانها على يحيى المُستسلم أمامها حتى استيقظ مروان الصغير من صراخها وحدثها بصوتٍ ضعيفٍ: «ماما.. في إيه يا ماما؟». هنا توقفت سمر عن ثورتها وتوجهت صوب مروان الصغير وهي تبتسم وتضَعُ يدها على جبهته تتحسس حرارته وبتلك اللحظة نظر إليهم يحيى غاضبًا وحاول أن يُلملم شتات كرامته كرجل وانصرف إلى خارج الغرفة بهدوء.
*****
لفيفٌ من رجالِ الشرطةِ بزيهم الرسمي وعرباتِهم ذاتِ الإضاءةِ المعروفةِ تلتفُّ حولَ أحدِ الأجزاءِ من الشارعِ وهم يُحاوطونَ سيارةَ التاكسي وسائقَها.
يقتربُ من هذا اللفيفِ المقدِّمُ ياسين حسن بشاربِهِ الكثِّ الغليظِ وملابسِهِ المدنيةِ وهو يضعُ سيجارةً في فمِهِ ويخترقُ الصفوفَ بلا مُبالاةٍ، فيقابلهُ أحدُ الضباطِ أقلَّ منهُ رتبةً.
«تمام يا باشا.. قفشنا الواد القاتل واتحفَّظنا على الجثة والتاكسي وخبراء المعمل الجنائي والطبيب الشرعي بيعاينوا الجثة ومسرح الجريمة دلوقتي».
يسحبُ ياسين سريعًا أنفاسَ السيجارةِ بقوةٍ مرتين متتابعتين ثم ينفثُ الدخانَ من جانبِ فمِهِ وهو يهزُّ رأسَهُ للضابطِ بلامبالاةٍ.
«تمام.. تمام يا حمادة.. الواد القاتل فين.. هاتهولي خالينا نخلص»
ينظرُ لهُ الضابطُ بضيقٍ:
«حمادة.. حاضر ياباشا.. هاجبهولك.»
يتوجهُ الضابطُ سريعًا إلى أحدِ الأماكنِ ثم يُحضرُ سائقَ التاكسي المُكَلبشَ مع أحدِ أمناءِ الشرطةِ بالزيِّ المدنيِّ.
«الواد آهو ياباشا..»
ياسين ينظرُ نظراتٍ حادةً إلى سائقِ التاكسي الذي أخذَ يقفُ أمامَهُ مُرتعشًا ثم تحدثَ إلى أمينِ الشرطةِ بلهجةٍ آمرةٍ.
«فكَّ لهُ الكلابش ده يا ابني..»
أمينُ الشرطةِ ينزعُ الكلابشاتِ عن يدِ السائقِ، بينما أخذَ ياسين يسحبُ دخانَ سيجارتِهِ فيجدُها انتهتْ فألقاها بعيدًا ثم توجهَ إلى السائقِ بالحديثِ.
«قولي يا ابني اسمك إيه؟»
أجابهُ السائقُ خائفًا:
«اسمي سعيد ياباشا..»
أخذَ ياسين يُقلِّبُ في ملابسِهِ سريعًا وهو يتحدثُ إلى السائقِ بدونِ مُبالاةٍ.
«قولتلي اسمك إيه؟!»
السائقُ بالعًا ريقَهُ:
«اسمي سعيد.. سعيد يا باشا..»
ياسين يُخرجُ من جيبِهِ علبةَ سجائرَ، ولكنَّهُ يجدُها فارغةً، فيُلقيها غاضبًا.
«هي ناقصاكي أنتِ كمان على الصبح»
يتوجهُ ياسين بحديثِهِ إلى أمينِ الشرطةِ الذي يقتربُ منهُ مُسرعًا.
«بقولك إيه يا حمادة..»
«أؤمرني ياباشا..»
ياسين يُخرجُ نقودًا من جيبِهِ ويُعطيها لأمينِ الشرطةِ.
«بُص عايزك تجيبلي علبة سجائر جامدة.. عايزها تُبهدلِّي صدري.. أنا عايزها تجيبلي السرطان وقتي.. فاهم؟»
«عيوني ياباشا»
أمينُ الشرطةِ يبتعدُ مُسرعًا، والضابطُ يقومُ بدفعِ السائقِ ليقتربَ أكثرَ من ياسين الذي حدَّثَهُ في الحالِ:
«آه.. كُنَّا بنقول إيه يا حمادة.. قلتلي قتلتَ الواد اللي في العربية ده ليه؟!»
السائقُ خائفٌ بشدةٍ ويتحدثُ بتلعثمٍ:
«والله ياباشا ما قتلت حد.. أنا ما أعرفش القتيل ده ولا عُمري شفته وكنت هتجنن لما الناس لقوه في التاكسي بتاعي.. أكيد حد موَّته وحطه في التاكسي بتاعي من غير ما أشوفه».
ياسين يبتسمُ ساخرًا:
«إيه ياحمادة.. إنت هتستعبط ولَّا إيه.. حد هيخرج بالتاكسي بتاعه من الجراج لحد وسط البلد من غير ما ياخد باله إنه فيه قتيل في الكنبة اللي وراء.»
«والله يا باشا هو ده اللي حصل.. وما أعرفش مين اللي عمل معايا كده..»
ياسين أخذَ يهرشُ في عينيهِ ثم أنفِهِ وتحدثَ إليهِ سريعًا:
«ماشي.. هفترض إني هصدقك.. عايزك تحكيلي بالظبط عملت إيه من أول لما صحيت لحد ما لقيت الجثة.»
السائقُ يتحدثُ بخوفٍ شديدٍ:
«والله يا باشا ما فاكر.. أنا مش فاكر أي حاجة النهارده غير إني لقيت نفسي بسوق في وسط البلد، وبعدين لقيت واحدة مصوتة ولقيت البلوة دي في عربيتي..»
ياسين يُقرِّبُ أُذنَهُ جهةَ السائقِ ويُحدِّثُهُ مُستنكرًا:
«نعم ياروح أمك.. مش فاكر اللي حصلك..»
السائقُ بترجٍّ:
«والله ياباشا.. والله العظيم ده اللي حصل.. وحياة بنتي ما أنا فاكر أي حاجة حصلتلي من الصبح.»
ياسين مُستنكرًا:
«إنت مصرصر يلا ولا شارب كولا ولا حكاية أهلك إيه.»
ياسين يتحدثُ إلى الضابطِ بجوارِهِ:
«فتش لنا الواد ده وطلَّعلنا اللي في جيوبه.. يمكن نلاقي حبايتين حُمر ولا حباية زَرقا زَي وِشُّه ولا حاجة.»
الضابطُ يقومُ برفعِ يدِ السائقِ بجانبِهِ ويبدأُ في تفتيشِهِ.
«إرفع إيدك يلا..»
ياسين يتحدثُ إلى السائقِ الذي كان مُرتعدًا والضابطُ يقومُ بتفتيشِهِ.
«بُص يا حمادة.. إنت شكلك بتشتغل اللي جابونا وسكتك معايا مش دوغري.. يا تجيلي دوغري.. يا إما هاقفش عليك وأنا قفشتي وحشة.»
يدخلُ جنديٌّ جهةَ الضابطِ فيتوقفُ عن تفتيشِ السائقِ وينظرُ في الورقةِ ثم يتحدثُ إلى ياسين.
«اتوصلنا لهويةِ القتيلِ يا باشا.. القتيل طلع رجل الأعمال عمر فودة.»
ياسين مُندهشًا:
«عمر فودة.. ابن محمد فودة؟»
«أيوه يا باشا هو..»
ياسين يسحبُ السائقَ من جيبِهِ ويُوقِفُهُ أمامَهُ ثم يمسكُ رأسَهُ بينَ يديهِ.
«قتلت ابن محمد فودة.. مالقتش غير ابن محمد فودة اللي تقتله..»
ياسين يبتسمُ ساخرًا في وجهِ السائقِ وهو يضعُ يديهِ على رقبتهِ.
«يا نهار أبوك أسود.. ده أنت هتتعلَّق من الذنفلة.»
****
بداخلِ غرفةِ معيشةٍ بإحدى البناياتِ الفارهةِ كان هناكَ شابٌّ في أوائلِ الثلاثينياتِ ونُكملُ باقي الجملةَ يجلسُ على أريكةٍ ساهِمًا وذقنُهُ طليقةٌ ويبدو عليهِ الاكتئابُ الشديدُ ويُتابعُ إعلاناتِ التلفازِ في صمتٍ.
صوتُ طرقٍ شديدٍ على بابِ الشقةِ خارجَ منزلِهِ.
الطرقُ يزدادُ عنفًا أكثرَ فأكثرَ، والشابُّ لا يُبدِي أيَّ ردِّ فعلٍ.
فجأةً نسمعُ صوتَ هبدٍ شديدٍ على البابِ ثم يُفتحُ بعنفٍ بعدَ أن يُكسرَ.
يدلفُ من البابِ شابٌّ في نفسِ سِنِّ الشابِّ المُكتئبِ اسمُهُ محمودُ ويُحدِّثُهُ بقلقٍ:
«علي.. علي أنتَ كويسٌ؟ أختُكَ سماحُ بتقولُ إنَّكَ ما بتردُّش عليها من إمبارحِ، قلِقَتْ عليكَ جدًّا.»
علي ينظرُ لهُ بعيونٍ حمراءَ فجأةً ويُحدِّثُهُ بهدوءٍ: إحنا عايشين ليه يا محمود؟
سؤالُ عليِّ المُفاجئِ أربكَ محمودَ، الذي نظرَ إلى منضدةٍ أمامَ عليٍّ فوجدَ سِكِّينًا كبيرةً عليها.
محمودُ يبتلعُ ريقَهُ في قلقٍ: إنتَ بتسألُ السؤالَ ده ليه يا علي؟ إحنا مش اتفقنا إنَّكَ تنسى الكلامَ ده وتِشيلُهُ من دماغِكَ خالص قبل كده؟
لم يتحدثْ عليٌّ إليهِ بل اكتفى فقط بأن أشارَ بوجهِهِ إلى التلفازِ مرةً أخرى.
«جاوبني.. إحنا عايشين ليه؟ إحنا مش في الآخرِ هَنِموتُ؟ يبقى نِعيشُ من الأولِ ليه؟»
التفتَ إليهِ وصرخَ بهِ بعنفٍ: قولِّي إحنا عايشين ليه؟
شعرَ محمودُ بالارتباكِ واتجهَ إلى السِّكِّينِ بسرعةٍ وأمسكَها بيدِهِ.
نظرَ لهُ عليٌّ بعيونٍ شرسةٍ وهو يحملُ السِّكِّينَ.
شعرَ محمودُ بالتوترِ وهو يحملُ السِّكِّينَ فألقاها بعيدًا وتحدَّثَ مرةً أخرى إلى عليٍّ.
«علي أنا عايزكَ تيجي معايا.. هنروحُ نقعدُ مع سماحَ والولادِ، إنتَ واحشُهُمْ قوي وعايزين يشوفوكَ.»
قفزَ عليٌّ من مكانِهِ صارخًا: أنا زهقتُ من الدنيا.. زهقتُ من الكدبِ والخداعِ والفسادِ.. زهقتُ من عيشتي ومن حياتي.. أنا وقتي في الدنيا انتهى وماحدِّش هيقدرُ يمنعني المرةَ دي.
شعرَ محمودُ بخوفٍ شديدٍ فأخرجَ هاتفَهُ سريعًا وقامَ بتصويرِ عليٍّ وهو يُحدِّثُهُ:
«علي.. إعقل يا علي وارجعْ عن اللي في دماغِكَ.. لو في أيِّ حاجةٍ في الدنيا مضايقاكَ هنصلحُها مفيش حاجةٍ مالهاش حلٌّ.. بلاش علشان خاطري علشان خاطر أختِكَ وولادِها.»
دمعتْ عينا عليٍّ الحمراوانِ وهو ينظرُ لمحمودٍ ثم نظرَ إلى ساعةٍ أمامَهُ واقفةٍ على الساعةِ 12 إلا ثلاثَ دقائقَ.
«وقتي انتهى يا محمود.. قول لسماحَ تنساني وتعيشَ حياتَها معاكَ أنتَ والولادُ.»
شعرَ محمودُ بالخطرِ فظلَّ يقومُ بتصويرِ عليٍّ وهو يُحاولُ الاقترابَ منهُ ليُثنيهِ عن فعلِهِ:
«إعقل يا علي.. إعقل يا علي وتعالى معايا ربنا يهديكَ.»
أخرجَ عليٌّ سِكِّينًا بسرعةٍ من ملابسِهِ وأخذَ يُحرِّكُها بعنفٍ بالهواءِ وهو يصرخُ: ماتقربش منِّي.. ماتقربش منِّي.. ماحدِّش هيقدرُ يمنعني من إنِّي أسيبَ الدنيا.. ماحدِّش هيمنعني.
ابتعدَ محمودُ خائفًا من تلويحِهِ بالسِّكِّينِ.
نظرَ عليٌّ الساعةَ فوجدَها 12 بالضبطِ:
“ميعادي جه.“
استغلَّ محمودُ تلكَ اللحظةَ وهمَّ بالهجومِ على عليٍّ الذي رفعَ سِكِّينَهُ وكادَ يهوي بها على محمودٍ فتراجعَ سريعًا: إبعد عنِّي.
هُنا نظرَ عليٌّ سريعًا أمامَهُ بجوارِ التلفازِ فوجدَ نافذةً مفتوحةً.
اتجهَ سريعًا إلى النافذةِ وهو يركضُ.
صرخَ عليهِ محمودُ بسرعةٍ وهمَّ بالركضِ نحوهُ وهو يقومُ بتصويرِهِ من هاتفِهِ.
«علي.. علي..»
قفزَ عليٌّ من النافذةِ بالحالِ وهشَّمَ زُجاجَها.
وصلَ محمودُ إلى النافذةِ وأخذَ يُصوِّرُ عليًّا وهو يهبطُ من الدورِ السادسِ ليسقطَ فوقَ سيارةٍ فارهةٍ كانت تتحركُ أسفلَ البنايةِ. (صارخًا مصدومًا).. علييييييييي..
السيارةُ تتحركُ وفوقَها جسدُ عليٍّ لأمتارٍ قليلةٍ ثم تتوقفُ وصوتُ بوقِها يدوي.
تجمَّعَ المارةُ حولَ السيارةِ وهم مُندهشون مصدومونَ وتتعالى صياحتُهُمْ مُختلطةً بصيحاتِ محمودَ الحزينةِ على عليٍّ مُختلطًا بصوتِ البوقِ.
******
ما الذي تعتقد سوف يحدث بعد ذلك في رواية حرب البهادرا؟ ✍️ اكتب ماذا تعتقد في التعليقات حتى تقارن توقعاتك فيما بعد بما سيحدث! 👇