الحلقة الأولى من همس الظلام
همس الظلام
رواية همس الظلام للكاتب إسلام عبد الله هي واحدة من أكثر الروايات تشويقًا في عالم الأدب العربي المعاصر، حيث تقدم للقارئ تجربة فريدة من نوعها..
(البداية)
(( لا تَقرأ هذا الكتاب ))
(( لا تقرأ هذا الكتاب ))
(( لا تقرأ هذا الكتاب ))
((إذا قُمتْ بقرأته الآن رغم تَحذيري لكَ.. فنَصيحتي لكَ ألا تُمزِقه ولا تُغرِقه ولا تُحرِقه.. بل ارسله إلى شَخصٍ غيركَ ليَتحمل إثمك ووذرك كما حَملتْ أنتَ وذري وإثمي مِن قبل.. سوف تُدرك في النهاية أن الفضولَ قاتلٌ.. سوف يَقلبُ الحقُ أمامكَ إلى باطل.. لذا أتمنى للمرةِ الأخيرة أن تَجعلكَ كثرة تَحذيراتي تلك مُرتابً وتَدع عنك قــــــــراءة هــــــذا الكتـــــــــــــاب))

((يبدو أنك ما زلت مُصرًا على العِنادِ حتى بعد كل تلك التحذيرات.. في النهاية لن تَتعلمَ مالم تَتألم))
*****
(النجاحُ كَجبل له قِمتين، الصعود إلى القمة الأولى مُرهق والسقوط مِن الثانية مُدوي)
كان وضعًا مُربكًا غَريبًا لم أعتدْ عليه بهذا الشكل أبدًا.. الصَخبُ والهَمهماتِ وإنعكاسِ الأضواء مِن عدساتِ الكاميرات والإرهاق مِن كثرة الأسئلة المُكررة عليّ بشكلٍ أو بأخر والآم ساعدي وأصابعي مِن كثرة التوقيعات المٌقَولبةِ التي أحفظها، كلها أمور كنتُ ألفتُها وعايشتُها من قبل كثيرًا، ولكن الوضع الآن مُغاير تمامًا.. المَقاعدُ الفارغةِ مِن جالسيها، نُسخ الكتبِ المُكدسة أمامي، نَظرات خيبة الأمل التي تَرتسمُ على وجوهِ مَالكي المكتبة التي تَحتضني، كل تلك الأمور لم تَحدُثْ مَعي مِن قبل.. أنظرُ إلى الساعةِ الضَخمةِ أمامي وهي تَأنُ مِن كثرةِ المَلل المُصاحب لجَلستنا تلك لأجدها قد تعدتْ السابعة بنصفِ ساعة.. إذن الوقت لم يَعدْ مبكرًا عليّ الحضور.. على الرغمِ مِن حضور الجمهور دائمًا قبل مَوعده بوقتٍ طويل.. إذن مِن المُحتمل أن يكون هناك خطأ ما بتفاصيل الحفل.. يَجبُ أن يكون هناك خللًا في المكان أو الزمان.. بالفعل هناك خلل ما.. سَحبتُ هاتفي مِن على المِنضدةِ أمامي وفتحتُه مُسرعًا وظللتُ أقلبُ بصفحاتي على مواقع التواصل الإجتماعي وقرأتُ تفاصيل الحفل بتَمعن شديد ولكن لم أجدْ أي خلل ما.. المكان مُطابق والزمان مُناسب في السابعة مساءًا.. إذن لماذا؟ !!..
لماذا حفل توقيع صدور كتابي الجديد فارغ هكذا.. هذا لم يحدثْ أبدًا على مدار عقد مِن الزمان.. أصدرتُ خلالهم سبعة أعمال كلها كُللتْ بالنجاحِ الشديدِ والمَبيعات الضَخمة.. الفَتيات والشباب المراهق الذي كان يَلتفُ حولي في المكان ويُلاحقونني أينما ذهبتْ أين ذهبوا.. أيعقل أن يَصدقَ حديث أحد النُقاد عندما إتهمني بأني أقدمُ أعمالًا تُناسبُ المُراهقين فقط وسوف يعزفون عني عندما يَنضجون قليلًا، عَقدٌ مِن الزمانِ كَافيًا بالفعل أن يَجعل مِن الصبي شابًا فاتيًا.. أنه مِن الممكن حدوث هذا ولكن يجب أن يَعقب تلك الأجيال مراهقون جُدد سوف يُعجبون بأعمالي هم أيضًا لعقدٍ جديدٍ مِن الزمانِ وهَلم جر.. ولكن لماذا لم يَحدثْ ذلك !!.. هل المُراهقون الجدد هؤلاء لا يهتمون بالقراءة أم ماذا؟ !!.. هل العيب بيّ وبكتاباتي أم العيب مِن هذا الجيل الجديد الذي لم تعد القراءة مِن اهتماماته.. هل ستَنقرض القراءة أمام ذلك الغزو التُكنولوجي الجديد.. هل سوف يَنقرضُ الكتاب كَوسيلة تَواصل الشباب مَع العالم بعد ذلك.. هل سينقرض كل ما يَخصْ تلك المهنة مِن دور نشر وكُتاب ومُدققين لغويين ومُنسقين ومُصممي أغلفة وخلافه.. لا أعتقدُ ذلك .. فلقد صَمدتْ القراءة مِن بدء التاريخ الحديث عندما كانت تُمارس على شكل رسومات مَكتوبة فوق جدران الكهوف منذ فجر التاريخ وصَمدتْ أيضًا أمام الفيضان التُكنولوجي العملاق الذي غمرها على هيئة أمواجٍ إذاعية و مِن ثم تلفزيونية وسينمائية حتى ظهور الأقمار الصناعية وغزو الفضاء وإقتحام كواكب أخرى.. صَمدت القراءة أمام كل هذا، وستَظل تَصمدُ في المستقبل أيضًا، فالقراءة والكتابة عاملان ثابتان لنجاحِ أي حضارة على مر التاريخ ولا غنى عنها أبدًا.. إذن الخلل ليس وجودي كما كنت أتخيل .. لكن العيب في النهاية سوف يَظلُ مُلاصقًا بيّ، هناك شيء غير طبيعي يَحدثُ معي، أو أنه طبيعي و أنا الذي كنت أنكرُ وجوده حينها وأتصنعُ عدم رؤيته، أنه تعاقبُ الأجيال ولعبة الكراسي الموسيقية، فالنجاح والوصول إلى القمة لهما رصيد زمني مُحدد وعند إنتهائه سوف تُقذفُ مِن على مقعدك ليَحُل غيرك مكانك.. هذه سُنة كونية الجميع يَعلمُها ويُشاهدها تَحدثُ بشكلٍ شبه يومي أمامه فهي حقيقة ثابتة حتميه وجوبيه كَالهرم وتَلاشي القوة والجمال وَالموت أنا أعلمُ هذا جيدًا ولكن أن تعلم بوجود شيء فرضيًا ليس كما تُعايشه بنفسك.. فالكل يعلمُ بوجود الفيروسات والبكتريا ولكن يَشاقى بالآلام عندما تَسكنُ بداخله وتُزمجر بعنف ُمُعلنة عن نفسها.. وها أنا أيضًا أشقى عدم تَقبُلي بهذه السنة الكونية لتَعاقب الأدوار وسحب النجاح مِن أسفلِ الأقدام فبالفعل إن كانت دامت مع غيري ما كانت قد وصلت لي أبدًا.. ولكن لم يُفيدني هذا الدرس الكوني هنا نهائيًا لم يَمنعني مِن السقوطِ بفخِ الأحراج الذي أمر به الأن ولم أصادف مثله في حياتي.. نظرات مَن حولي وأحاديثهم الهامسة المتأففة تَزدادُ وتيرتها ولم يَستطيعوا أن يُخبئوا مَكنونهم أكثر مِن ذلك حيث تَرامت إلى أُذني صوت شخص خلفي يَتحدث إلى صاحب المكتبة بضيقٍ وحنق..
” أخبره أن يُخلي القاعة فلن يأتي أحدٌ إليه فقد أفلَ نِجمه منذ زمن بعيد كما أخبرتكم مِن قبل والكاتب الألمعي الشاب حيدر درغام سوف يأتي بعد قليل وسوف تَمتلئ هذه القاعة عن أخرها ويجب أن نَستعد لذلك”.
ابتلعتُ كلماته بمضضٍ رغم مَرارتها بحلقي ولملمتُ كرامتي المُبعثرة .. وابتسمتُ وأنا أجمعُ حاجياتي وأحاولُ أن أتحكمَ بعرقي الغزير الذي كسى وجهي وتعلقتُ بهاتفي وأخذتُ أنظرُ إليه قليلًا ثم تَحدثتُ إلى مَسئول الحفل محاولا أن أبررَ له إنصرافي المبكر لكثرةِ إنشغالي ولكنه أخذ يَهزُ رأسه لي بلامبالاة ويبدو أنه لم يَحتجْ مِن البداية أن يَستمعَ إلي، نظرتُ أرضًا محاولًا تحاشي النظر بعينِ أحدهم فتَنعكس مِن خلالهم نظرات الشفقة أو التشفي أو حتى الإتعاظ مِن حالي.. فأنا لن أستطيع أن أحتمل أي نظراتٍ مِثل تلك أبدًا فلم أعتد إلا على نظرات الفخر أو الذهول والغيرة الحارقة.. لم أستغرق وقتًا طويلًا للخروجِ مِن المَكتبة التي كانت بالنسبة لي أمرا روتينيا أجلسُ على قمةِ العالم مِن خلالها لبضعةِ ساعات وتَحولتْ في يومٍ وليلةٍ إلى مَقبرة لا أستطيع التَنفس فيها، كنت سأختنق إذا ظللتُ بداخلها لعدةِ دقائقٍ أكثر مِن ذلك.. وقفتُ أمام سيارتي مَذعورًا أريدُ أن أنصرفَ مِن هنا بأسرعِ وقت مُمكن، فَتحتُ باب السيارة بعنفٍ لكنه لم يُفتحْ، حاولت أكثر مِن مرة ولكن لم أستطع نهائيًا ومِن ثم تذكرتُ بأن الباب مُغلق إلكترونيًا.. فتشتُ بداخل ملابسي سريعًا أبحثُ عن مفتاحِ السيارة ولكن لم أجده أبدًا.. وهنا وجدتُ شخصًا يَركضُ ورائي وهو يُنادي علي فالتفتُ إليه لأجده موظف المكتبة يَحملُ مفتاح السيارة ويعطيني أياه وهو يَبتسم ويُخبرني أني قد نسيته فوق المنضدة التي كنت أجلسُ عليها تَلقفتها سريعًا وأنا أتصنعُ إبتسامة صفراء تَخفي ما حلّ بي مِن إرتباك مُصاحب لإحراج جديد.. فتحتُ السيارة سريعًا ودلفت بداخلها وانطلقتُ بأقصى سرعة..
كان الجو حارًا خانقًا والشمس بأشعتها اللزجة تُطاردُ وجهي بأي جهة أختبئ بها ولم تُغنِ عني أي تدابير إحترازية أتصنعها للخلاص منها..
التأفف..
الضيق..
الحنق..
وجميعُ الأفكار السلبية تَتملكني الآن.. لأجد ما أُفَرِغ به جُم غضبي فلست مُدخن شره لكي أنفثُ دخان الحقد بداخلي مِن خلال قبضات التبغ المُميتة ولا حتى بالشخص البلطجي صاحب السطوة لكي أفتعل معركة وهمية مع أي شخص عشوائي أمامي وأكيلُ له اللعنات المُصاحبة للكمات.. وزوجتي اللينة الطبية التي تَغمرني بحبها وكرمها دائمًا جعلت مِن رابع المستحيلات أن أقوم بالنظر إليها بنظراتٍ حادة فقط فما بالك بالصُراخِ عليها.. حتى سيارتي التي انتابتني نوبة حمق للحظات و ودتُ أن أضربَ مِقودها بقبضاتي ولكنِ تراجعتُ عن هذا الأمر سريعًا فإذا حدثت أي تلفيات بتلك السيارة الآن فلا أعتقدُ بأن لدي المَقدرة لكي أقوم بإصلاحها.. فأنا على حد الكفاف دائمًا وهذا ليس مصيري أنا وحدي فهذا مصير كل مُعانقي الفن بكل أشكاله ببلدٍ لا يعترف بالفن إلا أن كنت مُمثلًا مشهورًا فقط.. حينها سوف يُوضع على ظهرك صك الفن وتُنعتْ بالفنان هذه صورة الفن الوحيدة لديهم ولا معنى آخر لأحد دون ذلك.. لم أجد أي وسيلة للتنفيث عن غضبي سوى أن أصرخ بعلو صوتي وأنا بداخل السيارة وبالفعل فعلت ذلك ومَلئت الدنيا صُراخ وعويل ولكنِ كففتُ عن ذلك سريعًا عندما تَخيلتُ مشهدي وأنا أصرخُ بمفردي بداخل السيارة لمن يراني مِن الخارج فسوف يَنعتني بالجنون وقد أكون سعيد الحظ ويَلتقط لي أحدا ما صورة وأنا على هذا الوضع لأكون مصدر لسخرية مواقع السوشيال ميديا عدة أيام ويصنعون النِكات والمُزحات على صوري الشخصية التي أحرص أشدَ الحرص على أن أكون بكامل وقاري مِن خلالها فأصبح أضحوكة ومَصدرا للهمزِ واللمزِ طوال تلك الأيام حتى يَصدر أمر جديد يُشغلهم عني ولهذا توقفتُ في الحال عن ذلك وأنا أتلفتُ حولي كَاللص أرى مَن يَختلسُ إلي النظرات مِن هنا أو مِن هناك ولكن لحسن الحظ كان الجميع مشغولًا بأموره ولم يَعبئ أحدًا بما يحدث لي .. أرأيت ما آل إليه حالي.. لم أستطع حتى أن أخرجَ غضبي على هيئة صيحات إستهجان أو سباب أو عراك كرجل الشارع العادي لأني مِن المُفترض شخص مَعروف لفئة ما ليست بالقليلة وليست بالكثيرة أيضًا.. فيجب على مُتصدري الشأن العام أن يتخلوا عن حقوقهم الشخصية رويدا رويدا طرديا مع معرفة الناس بوجههم وإنتشار أسماءهم أكثر فأكثر..
عدتُ إلى منزلي دون أن أدري كم إستغرقت مِن وقت فوجدت حارس العقار يتلقفني بوجه مُبتسم لحوح يكاد ينطق بأن أفرغ ما في جيبي كنوع من الحلوان بسبب نجاح حفلة توقيعي المعتادة.. نظرت إليه مبتسمًا وأنا أحاول كظم غيظي وهو يستدر عطفي ويُغدقني بكلمات المديح البلهاء الجوفاء التي ليس لها معني والتي أصبحت نياطً تُمزقني الآن عكس السابق عندما كنتُ أرتشفُ من تلك الكلمات وأسكر بها بسبب خمر نجاحي أما إذا غابت السكرة وجاءت الفكرة أصبح لكل شيء ميزان معدول وتكشف كل شيء بوضوح فهو يتملقني لكي يَتحصل على أموالي بدون حق، ولهذا قررتُ بالحال أن أصبَ جُمَ غضبي عليه وبدل من أن يَسلبني نقودي يجب أن أجعله يُحلل الأموال التي يَتقاضها مني بالفعل، فقمتُ على الفور بإلقاء مفاتيح السيارة بين يديه وأنا أخاطبه بلهجة آمرة قوية..
” السيارة متسخة للغاية.. لماذا لم تقم بغسلها أسبوعيا كما أمرتك.. بدلًا من أن تجلس على هاتفك وتتصفح مواقع التواصل الاجتماعي وتتلصص على أخباري أولا بأول.. كان من الأجدى أن تتقي الله في عملك وتمارسه على خير وجه.. هيا كف عن تكاسلك الآن واغسل السيارة جيدًا.. أريدها مثل الجديدة بظرف دقائق..”
ثم أدرت له وجهي غاضبًا وغادرت تاركا إياه ساهمًا واجمًا مِن رد فعلي المُغاير لما عاهده مني.. تنهدت بقوة وأنا أخرجُ مِن مصعد البناية وأنا في حيرة من أمري.. هل أُعلم زوجتي بحقيقة ما حدث معي أم أخفي عنها الأمر واتصنع الرضا والفرح أمامها.. لم يُسعفني تفكيري في الإختيار ما بين الأمرين ودلفتُ إلى المنزل فتطرقت إلى أنفي رائحة زكية جذبتني إليها.. أنها رائحة محببة للجميع.. رائحة كعك البرتقال.. إنها عادة زوجتي بالإحتفاء بنجاح أعمالي أو حدوث أي أمر مُفرح لنا بشكل عام فتقوم بملء بطوننا مع قلوبنا من طعامها اللذيذ.. إبتسمت رغم عني عندما شاهدت طفلي وهما يُستقبلاني بالقفز والصراخ وهما يَتعلقان بأقدامي فرفعتهما بين يدي وأنا أقبلهم بحب شديد فلا يوجد بهذا العالم كله أفضل من إبتسامة طفلك عند رؤيتك.. قَبلتهما بمحبة وداعبتهم عدة دقائق حتى وصلتْ زوجتي لتَستفسر عن ماحدث معي وحينما رمقتني استطاعت أن تعلم بما يَجُلْ بنفسي دون أن أتكلم فصُحبتها الطويلة لي جعلتها مُتمرسه بعلم الفراسة والمشاعر الزوجية فلم تتحدث إلي وسألتني فقط عن رغبتي بتناول الغداء ولكم كانت نفسيتي لا تسمح بذلك حينها ولكن حينما تطرقت إلى أنفي رائحة المخبوزات المُصاحبة برائحة البرتقال الشهي وَجدتُ مِعدتي بدون وعي مني تُزمجر جائعة فقبلتُ دعوتها الكريمة لتناول طعامها الشهي الذي يُسعد القلب الحزين على قول العوام من المصريين، تناولت الطعام مُتناسيًا أصول الأناقة واللباقة حتى أصبتُ بالتخمة فجلستُ على الأريكة أحاول أن أطرحَ عن جسدي خيبة الأمل التي أصبت بها خلال اليوم، شاهدتُ التلفاز بلا مبالاة فجلست بجواري زوجتي بعد أن ذهب الأولاد في سباتٍ عميق وتَجاذبنا الأحاديث بيننا فشرحت لها جُل ما حدث معي هذا اليوم، الذي كان نهاية عدة مُؤشرات كثيرة كانت تُحاوطني في الفترة الأخيرة تَدل على أفول نجمي .. حاولتْ زوجتي أن تخفف عني وتُخبرني بأن هذه الأمور نتاج مُخيلتي فقط ولكنِ كنت على ثقة مما أقوله فلقد شاهدت ما يحدث معي حدثَ لكُتابٍ من الجيل السابق لي مِن قبل وأصبحوا الآن مِن الماضي بعد أن أفل نجمهم وأندثر وأنا أسير بنفس طريقهم السابق دون أي تغيير يُذكر.. وتلك كانت مصيبة ما بعدها مصيبة فالنجاح له طعم حلو بالفم لا تَستسغْ طعم مرارة الفشل بعده أبدًا.. وعددت لها هؤلاء الكتاب وما شاهدته مِن تقاسم نفس المصير معهم وهنا وجدت إبتسامة عريضة تَرتسم على وجه زوجتي مُصاحبة لبريق النصروهي تَقفز مِن الأريكة بحماس..
” ألم أخبرك أن هذا الأمر نتاج خيالك فالكاتب محمود إسماعيل مسعود الذي عددته مع زملائه البائسين وأخبرتني أنه قد أفل نجمه لقد أصبح مِن أفضل الكتاب مبيعًا هذه الأيام وتَجده ضيفًا في جميع اللقاءات التلفزيونية هذه الأيام للحديث عن أعماله “..
هنا ضحكتُ ساخرًا على حديثها الحالم هذا، فالكاتب محمود إسماعيل مسعود هذا كان أكثر كتاب جيله موهبة وغزارة إنتاج وعلى الرغم من هذا لم يَعدْ يُحقق أي نجاح يُذكر منذ عدة سنوات وأصبح نسيًا مَنسيًا فلقد عاينت هذا بنفسي ولكم أخبرني بأنهلا يَجد ما يسد به رمق اسرته مِن طعام وكنت من حين إلى أخر أرسل له بعض النقود لمساعدته ولم تَجد زوجتي سوى هذا التعيس لكي تضرب مثلا لي به لم أستطع أن أخفي سخريتي منها بضحكاتٍ عالية مُستفزة وهنا تلاشت تلك الضحكات أمام إبتسامة الثقة التي ابدتها لي وهي تُمسك هاتفي وتفتحه أمامي وتضغط على بعض الكلمات ومن ثم دَستْ الهاتف بين يدي فنَظرتُ إلى الشاشة بفضول لأجد مَن..!!
الكاتب التعيس المنحوس محمود إسماعيل مسعود بمقطع على الانترنت وهو يتحدث إلى مذيعة مشهورة بقناة فضائية من أعلى نسب المشاهدة بالوطن العربي وهو يرتدي ملابس فخمة وقد قام بصبغ شعره وتعلو وجهه علامات الثقة والزهو وهو يتبادل الضحكات مع المذيعة،أحتلتْ علامة الدهشة ملامح وجهي وسط ضحكات الإنتصار الصادرة مِن زوجتي، لم أصدق ما شاهدته بالبداية وأخذتُ أدقق بملامح هذا الشخص لأجده بالفعل هو محمود إسماعيل بملامحه الدقيقة ونحافة المثيرة للجدل، بحثت عن التاريخ سريعًا لكي أتأكد بأن هذا الفيديو ليس قديمًا مِن أيام مجده السابقة على الرغم مِن عدم توافر مواقع تواصل اجتماعي مُنتشرة مثل الآن ولكن لعل وعسى وهنا تفاجئت بأن الفيديو يَعود إلى أقل مِن ثمانية أياممضت، شاهدتُ اللقاء سريعا وأخذتُ أبحث عنإسمه في كافة مواقع الإنترنت وهنا وجدتُ له العديد مِن الأخبار والفيديوهات الحديثة، لقد آثار هذه الأمر إندهاشي كيف لشخص قد خفتتْ عنه الأضواء والنجاح قد خاصمه لفترة طويلة ويستطيع أن يعود من جديد لأوج مجده.. تحدثت إلى زوجتي مُتعجبًا عن ما آل إليه هذا الكاتب، وهنا تقمصتْ دور مُدربي التنمية البشرية وانطلقتْ بمحاضرةِ تُخبرني خلالها على أن بقاء الحال مِن المُحال وأن الحياة عُبارة عن سفينة وسط أمواج عارمة أوقات تكون هادئة و أوقات أخرى تكون مُتخبطة وسط عواصف بغوائم مُلبدة وأن ما أصابني منذ عدة أشهر ختاما إلى اليوم هي مجرد كبوة لفرس جموح وسرعان ما سوف يتغير الحال إلى الأفضل بلا شك.. على الرغم مِن عدم إقتناعي اللحظي بجدوى حديثها ولكن عند مُشاهدتي لحال محمود إسماعيل الجديد إذا من الممكن أن يكون حديثها بالفعل صحيح.. مر اليوم سريعًا وعدت أيام أخرى امتدتْ إلى أسابيع ومِن ثم تَحولتْ إلى شهور حتى مر عامان إلا قليلًا.. أصدرتُ خلالهم كتابًا ومجموعة قصصية ولم تحققا أي نجاح يُذكر وبالطبع لم يكن هناك مُستحقات مالية لأعمالي السابقة ولن يكون هناك مِن أعمالي اللاحقة واضطررتُ أن أصرف على عائلتي مِن أرصدتي السابقة وكانت الأحداث التي تستوجب سحب الأموال مِن مَحفظتي كثيرة وغيرمألوفة.. مرض أصابني بمعدتي استوجب عملية صعبة أقوم بها دفعت الالاف مِن أجلها، سيارتي تحطمت بحادث سير مع زوجتي.. ارتفاع مصاريف الدراسة لأطفالي الثلاثة أضعاف بدون أي مبرر منطقي يُذكر، حريق نَشب بمحتويات المطبخ أتى على نصف أثاث المنزل وأشياء صغيرة أخرى تَستدعي أموال كثيرة لاداعي لذكرها فكان الحال كما يقال أن المصائب لا تأتي فُرادى، أصابني الضيق والإحباط مِن تكرار عدم نجاحي والغم والهم مِن إرتفاع ديوني مَع تدني ملحوظ بصحتي ولم أجد هنا كلمات زوجتي المشجعة التي كانت تَدعمني ولو بشكل معنوي خلال هذان العامان ولكن لم تفعل العكس أيضًا بأن تُشعرني بذنب شيء لم أقترفه فاكتفيتُ بالصمت.. الصمت التام.. طوال اليوم لا تتحدث معي سوى بضعة كلمات على الأكثرولكنها كانت على العكس تَنفجر في الأطفال بأقل كلمة يتحدثون إليها بها ..أصبح الوضع سام قاتل للإبداع فلم أستطع أن أكتب أي شيء جديد بعد ذلك ولم يكن بإستطاعتي الخروج كثيرًا من المنزل حتى لا أتعرض إلى مصاريف إضافية مِن الوقود وإكرميات وإحسان للمُتواجدين في أي مكان يشاهدون به وجهي فلقد أعتادوا مني على ذلك، فلزمتُ البيت لا أفعل شيء سوى مُشاهدة الأخبار المَقيتة ومُتابعة الأعمال الدرامية الضعيفة التي كَتبتُ أفضل منها مئات المرات ولكن لسببٍ ما لا أعلمه لم تجد كتاباتي طريقها وسط كل تلك الأعمال الدرامية القَميئة المُتكدسة بداخل التلفاز، كانت مُشاهدة تلك الأعمال بركاكتها تَجعلني أغلي مِن داخلي وأنا أندب حظي وقلة حيلتي مِن عدم مُواكبتي لهؤلاء، فتركت كل هذا ودلفت إلى الإنترنت أتحسس مَنظور الحياة مِن وجهة نظرات رواد مواقع التواصل الإجتماعي ولم يكن الأمر مُختلف كثيرًا عن خارجه فمازالت الفتيات تَنوح مِن أوضاعهن والشباب يَلعن حظه العاثر والعجائز يَندبن على العمر الذي مضى بكل ما يَحمله مِن أخلاق وقيم مِن وجهة نظرهنْ، كان الوضع المُزري لمَن حولي يُشعرني بأني لست بمفردي الذي يُعاني مِن مُحاصرة الحياة له ولكن كان لبعض الكُتاب الأصدقاء لي أمرًا مُختلفا بعضهم أخذ يَتباهى ويَتفاخر بعدد مبيعاته الضخمة أو تحويل كتابه إلى عمل سينمائي نادرا ما سوفيُنفذ، فكانت أحوال هؤلاء الأوغاد تُشعرني بالغيرة الخانقة فمعظم هؤلاء لا يفقهون بالكتابة شيئًا مِن وجهة نظري وبالطبع أنا مِثلهم لا أفقه بالكتابة شيء من وجهة نظرهم أيضًا هذا شيء مُتعارف عليه لدى الجميع بين أبناء المهنة الواحدة، فكنت لا أخجل بأن أوصفهم بهذا وأن يترامى إلى أُذني أراءهم بي وكنت أجعل الأمر الفاصل بيننا هو عدد مبيعات أعمالنا و أراء القراء بها وكنت أفوز بهذا الرهان دائمًا.. ولكن عندما تَحولت دائرة الاضواء مِن علي فقدتُ كل ثقتي بنفسي وبدأت أميل بأني لا أستطيع الكتابة بالفعل، ووسط كل هذا كله أكثر ما كان يُحطمني ويُدمرني بشكل كلي هو مُتابعة نجاحات محمود إسماعيل مسعود.. كيف استطاع أن ينتقل من نقيض الفشل إلى نقيض النجاح مِن جديد.. فمازالت أعماله تَتصدر واجهات المكتبات وأخباره مُتناثرة على صفحات السوشيل ميديا والمواقع الإخبارية وكنت أتعجب أشد إعجاب مما يحدث معه.. ولم أخفي حُنقي هذا واخبرتُ به زوجتي التي ألقت عليّ أمر بديهي لم يخطر ببالي قط..
” لماذا لا تسأله بنفسك ماذا فعل وتفعل مثله ؟!”
وهنا صدمني تعليقها برأسي كصدمة كرة طائشة من قدم شاب مراهق.. بالفعل لماذا لا أساله عن تغير حاله العجيب هذا، ولكن كنت اخشى أن لايُخبرني عن سره فاجابتني زوجتي بأني كنت مِن الأشخاص القليلة التي ساعدت محمود إسماعيل بمحنته.. وهنا أيضا القتْ عليّ إقتراح بديهي ولكن لم اقتنع به مِن قبل فيبدو بأن البشر لا يَقتنعون بأفكارهم الخاصة إلا بعد أن يُصدق عليها أشخاص أخرين فلاقى حديثها إستحساني بالفعل فأنا قد قمتُ بمساعدته وكثيرًا ما كنت أعطيه أموال تشد أزره في أزمته فمن الواجب الحتمي عليه أن يُساعدني بمحنتي الحالية، أنا بالطبع لن أطلبَ منه نقود فأنا لن أتسول، ولكن إذا أراد أن يعطيني فلن أرفض.. لا.. لا.. لا أريد نقود.. أريد فقط أن يُساعدني بالنصيحة.. يُخبرني كيف فعل هذا وألقي بجسد الفشل المفتول العضلات من فوقه ووقف على قدميه مِن جديد وهذا ليس بالشيء الصعب.. تَهللت أساريري وعاد إلي نشاطي مِن جديد فإبتسمت إلي زوجتي وداعبتها بصفات العبقرية والجمال والغزل التي تَسقط أي امرأه صريعة تحت حوافرها وامسكتُ هاتفي في الحال وضغطتُ على شاشته أبحث عن رقم محمود إسماعيل ووجدته سريعا وهممتُ بالإتصال به ولكن أصابني التردد للحظات.. هل الوقت مناسب الآن.. هل سيقوم بالرد على بعد أن أصبح مشهورًا مرة أخرى، هل سيكون مشغولًا بالكتابة أو النوم أو أي شيء آخر تعددتْ المبرارات أمامي لكيلا أتصل به وترددي ظهر على وجهي ولكن تَبدد بالحال عندما أومات لي زوجتي برأسها مُشجعه لكي أكمل أتصالي وهنا تشجعت وقررتُ أن أضغط على رقمه، ماذا سوف يحدث لي أكثر مما أنا به الآن.. وهنا تعالى صوت رنين الهاتف بأذني.. رنة طويلة وجافة.. كنت أشعر بأن كل رنة تأخذ وقت أطول مما كنت أعتاد عليه.. هل لهفة الإنتظار تُطيل الزمن بالفعل أم أنه الملل الذي يجعل كل شيء يأخذ وقت أكثر مما ينبغي، لست أدري سوى إني أكره الإثنين بشدة..
“الووووووو.. الوووووووو “..
هنا تنبهت إلى صوت محمود الحاد يُجيبني.. هنا انقبض قلبي وأنا أحاول أن أشدد مِن أزري..
“كيف حالك يامحمود.. أنا..”
قاطعني صوت ضحكه الساخر كالمعتاد..
“هل تعتقد بأني سوف أنسى صوتك ياصديقي، لا تقلق حتى إذا نسيته فإسمك فوق الهاتف يُزين شاشتها..”
ابتسمتُ على دعابته السمجة كالمعتاد وتناولنا السلامات والتهاني كثيرًا حتى ضَجرنا فبادرني بسؤالٍ سريع ومباغت..
” لم تُخبرني بعد ماسبب إتصالك بي ياصديقي.. هل ترغب بشيء ما مني !!”
سؤاله المباغت أربكني بالحال..
“أنا.. لا.. كنت أريد أن أطمئن عليك يا أديب وأهنئك على نجاحاتك العظيمة تلك”
” أشكرك ياصديقي.. أنت تعلم بأن الأمر كان مُرهق.. فلقد عاينتُ بنفسك ما مررت به مِن صعوبات ومشاكل حتى أنعم على الله بالنجاح مِن جديد “
هنا تحدثتُ إليه مباشرةٍ..
” أنا أمر الان بما مررت به وأواجه سوء حظ وعثرات ومُنيت أعمالي الأخيرة بالفشل دون سبب وجيه وأستمر هذا الأمر لمدة عامين أو أكثر فكنت أريد أن تُخبرني ماذا فعلت لكي تتخطى الصعوبات التي مررت بهالأتبع نهجك وأعود إلى مجدي مِن جديد “..
هنا شعرت بالارتباك الواضح بصوت محمود وهو يَسعل..
” كح كح.. أنا.. أحم.. أنا.. سوف أخبرك بالصراحة ياصديقي.. أنا لم أقم بشيء فعليًا كل ما فعلته أنه تَعاقدت مع دار نشر هي التي قامت بكل شيء مِن أجلي “
نظرتُ إلى زوجتي مُندهشًا وأنا عاقد حاجبي وأنا أنطق ” دار نشر !!.. دار النشر هي التي صنعت لك كل هذا!!”
أجابني صوته مُرتخيًا.. “نعم.. دار النشر هي التي قامت بكل شيء وهي التي حتى تُحدد سبل الدعاية وطرق ظهوري على القنوات الفضائية المختلفة وتُنظم حفلات التوقيع الناجحة لي “
هنا قامت زوجتي بالتحدث لي بصوت خافت.. ” أخبره أن يُقدمك إلى تلك الدار”
نظرتُ لها مُترددًا للحظات ولكن تَشجيعاتها الهامسة لي طمئنت قلبي .. فتحدثت إليه بثقة “كنت.. كنت أتمنى يا محمود أن تقوم بتقديمي وترشيحي لدار النشر هذه.. “
هنا وجدتُرد فعل غريب .. رد فعل أقرب إلى الهذيان .. صوت محمود غير مفهوم ويتحدث مع نفسه بسرعة.. ظننت أنه يتحدث مع أحد آخر في البداية ولكن عندما تحققتُ مِن صوته فلم أجد معني لأي كلمة بل هي مُجرد همهمه مُبهمة.. جعلتني أشعر بالغرابة منه فقطعت حديثه هذا سريعًا.. ” محمود.. هل أنت معي.. هل تتحدث مع أحد ؟!”
“لا.. لا.. أنا معك.. أنا معك.. “
” أنا أسف لأني أطلب منك ذلك ولكني مُحتاج بالفعل لأي مساعدة منك الآن، اخبرني هل تستطيع أن تُقدمني لدار النشر تلك أم لا؟”
صوت تنهيده قوية خرجت من صدره المُلغم بدخان السجائر التي يبتلعها كما يبتلع الصغير حبات الحلوى.. “حسنًا.. هناك.. أمور يجب أن أشرحها لك قبل ذلك.. أن الأمر ليس كما يبدو “
آثارت كلماته فضولي..” ماذا تعني يامحمود.. أنا لا أفهم شيء.. “
تنهيدة سريعة أخرى.. ” ولن تفهم.. يجب أن أشرح لك الأمر في البداية.. لا أريد أن أتورط بهذا الأمر”
شعرت بالضيق من كلماته تلك وارتفعت الدماء إلىرأسي.. أيرفض مساعدتي بعد مساعداتي الكثيرة له.
” حسنا يا محمود.. أنا أسف لأني قد أزعجتك.. إنسى كل ماقلته لك “..
وهممتُ أن أغلق الهاتف لأجد صوته يَخترق اذني سريعا..
“انتظر.. انتظر.. لا تُغلق.. أنت.. لن تفهم.. تعال إلي في الغد سوف أشرح الأمر كله وإذا رغبت بعد حديثي أن تتعاون مع دار النشر تلك فأنا سوف اساعدك “
لم أفهم مغزى كلماته الغير مفهومه هذه، هل يريد أن يُساعدني أم لا، ولكن قد سايرت الموقف بالنهاية..
” في أي وقت يمكنني المرور عليك في الغد.. ؟”
” التاسعة مساًء سأنتظرك”
” حسنا يامبدع سوف أمر عليك في التاسعة أن شاء الله، ويجب أن تتوقع هزيمتك مرة أخرى بالطاولة “
ابتسم وبضيقٍ اجاب.. “هه.. سوف انتظرك ياصديقي “
ومن ثم أغلق الهاتف.. رد فعله المُتخبط اصابني بالتوتر اخبرتُ زوجتي ملخص المكالمة فاجابتني بكلمات مقتضبة ناهية..
” غدًا سوف تفهم كل شيء منه.. وأنا أتوقع خيرًا لأنه إذا كان يريد التملص منك كان فعل هذا من البداية.. “
وكالعادة نزلت كلمات زوجتي كالثلج فوق جسدي الحار فانتعشت ورُدت إلي الروح من جديد، وشعرتُ بالإسترخاء ودلفت إلىالسرير ونمت نوم طفل رضيع قضى حاجته وفاحت ريحته.وأتى صباح اليوم التالي فجلستُ أرتب حديثي وأستجمع عدة سيناريوهات لقبول محمود إسماعيل مساعدتي أو رفضها ووصلتْ بسيناريو منهم لشجارِ معه والدخول بصراع بالأيدي والأرجل، ومنهم سيناريو اخر أشعل الدماء برأسي بعد أن إكتشفت مكيده نصبها لي محمود لإحراجي أمام عدة أشخاص اخرون لينتهي الأمر بقتلي إياه ومحاولة إخفاء آثار جريمتي معه والتخلص من جثته، لا تستغربوا من طريقة تفكيري، فرأس الكاتب هي محطة قطار رئيسية لتجمع ورحيل الآف الأحداث بالعوالم الموازية التي لم تخطر من قبل على خلدك، طردت تلك الأفكار المزعجة سريعا من رأسي وأنا اضحك على سخافة عقلي أحيانا وتجهزتُ لمقابلته عقليًا وبدنيًا وبملبسي ايضًا عن طريق زوجتي الحبيبة وتَحركت خارج منزلي بالساعة السابعة والنصف مساء بالضبط، تَبادلت نظرات باردة مع حارس العقار بعد أن انقطعت مِنَحي المُغدقة عليه وأصبحت علاقتنا علاقة نفعية بحته بعد أن كانت إنسانية بسبب إنقطاع حبل الإنسانية المادي من وجهة نظره ألا وهو النقود .. نظرتُ لسيارتي فوجدت أجزاء كثيرة منها مُتسخة لم يتم تنظيفها جيدًا بينما يجلس حارس العقار مُتململاً على أريكته يَنظر إلي نظرة المنتصر الفخور، كنت سأمنيه بالهزيمة وأكيل له السباب والصراخ لولا أني كنت بحالة من الهدوء النفسي لا أرغب بتحطيمها.. توعدته بالإنتقام في نفسي ودلفت لسيارتي مُسرعًا حتى لا أتأخر على موعدي، وانطلقت إلى منزل محمود وأنا قلق أفكر في عدة سيناريوهات جديدة وسرعان ما وجدتني متوترًا فقمتُ بنفضِ كل الأفكار مِن رأسي وقمت بتشغيل بعض الأناشيد الدينية العذبة بصوت المنشد الإماراتي أحمد بوخاطر وظللت أدندن وأردد كلماتها حتى وصلت الي مقصدي سريعًا، منزل محمود الذي على الرغم مِن غفو الزمان عنه ولكنه مازال يمتلك أصالة وأناقة قديمة لم تَمسها يد البنيان القبيح الذي انتشر مؤخرًا..قمت بتحية حارس العقار الذي يبدو عليه أنه نسى من أكون ولكنه تذكر بأني كنت أتردد كثيرا على العقار فلم يسألني أسئلة حارس العقار المعتادة التي تخوله للحظات أنه أحد افراد النيابة وتركني أصعد في حال سبيلي .. تقدمت وأنا أتلو دعاء الصعود داخل المصعد المتهالك عسى أن يكون أجلي في هذا المصعد الذي يعمل منذ سبعين عامًا أو أكثر ويإن متألمًا كلما صعد شخص بداخله مِن جديد وضغطت على زر الدور الثالث.. وهنا أخذ يَصرخ المصعد كصراخ الأم الحُبلى في وقت موضعها وبعد معاناة وتوتر من أن يسقط بي في أي لحظة قام أخيرًا بنبذي من داخل أحشائه.. فخرجت أحمد الله على سلامتي وأنا أصدق النية على عدم الهبوط من خلال هذا المصعد فسوف أستخدم درجات السلم كما كنت أفعل دائما عند زيارتي لمحمود إسماعيل.. نظرت يَميني ويساري كما أفعل دائما فبهذا الطابق ثلاث شقق لهم نفس اللون وأنا أتذكر بأن محمود يسكن بأحدهم يمينًا أو يسارًا وهنا نظرت إلى اليمين لأجد أسم محمود إسماعيل فوق لافته بجوار الباب ابتسمت وأنا أتقدم إليه افمحمود لم يفعل هذا الأمر طوال حياته من قبل.. رمقت اللافته سريعا وأنا أبتسم ساخرًا وضغطت على جرس الباب الذي سرعان ماتم فتحه لأشاهده شيء لم أتوقعه اطلاقًا ولم أتخيل
أبدًا أن أراه.. يقف أمامي خادم المنزل.. هذا مشهد لم أراه من قبل مع أي كاتب زميل لنا مهما كان مشهورًا.. فنقود الكتابة بالعالم العربي لا تجعلك ثري لهذه الدرجة ولكن أن يصل محمود لهذه الدرجة من الثراء ليتحمل أجر خادم بزي رسمي مثل هذا كان أمرًا عجيب، جعلني مُتشككا أن أكون أخطئت المنزل فنظرت إلى اللافتة سريعًا لأجد الأسم
” محمود إسماعيل مسعود”.. لم يتركني الخادم لصدمتي سريعًا فاستوقفني بسؤاله ” من أنت …؟!”..
هنا شعرتُ بالخجل وحاولت ألا أحرج نفسي.. “اه.. أنا كاتب صديق الأستاذ محمود وكنت على موعد معـ.. “
هنا لم يُمهلني الخادم فرصه لأكمل تعريفي بنفسي.. ” نعم.. لقد عرفتك.. انتظر ثانية واحدة”..
ثم تركني واقفًا على الباب ودلف إلى داخل المنزل سريعًا.. رمقته مُندهشًا من فعله ومن عدم دعوته لي بالدخول وفكرت أن أدلف لداخل المنزل ولكن قررت إلا أفعل إلى أن يدعوني الخادم للدخول وحينها فسوف أبلغُ محمود بفعل ذلك الخادم الأحمق ليوبخه على الفور، ثواني قليلة وعاد إلي الخادم ليقف أمامي وهو يُخرج مِن طياتِ ملابسه كارت أسود ومكتوب عليه بالعربية والإنجليزية بلون أحمر مثير وأعطاه لي
“تفضل.. هذا هو الكارت الخاص بدار النشر وبه عنوانها.. اذهب إليهم في الغد الساعة الواحدة بعد منتصف الليل.. إنهم ينتظرونك.. “
امسكتُ الكارت مِن يده واخذت أقلبُه بيدي مُتعجبًا.. “ماذا.. أقابلهم في الواحدة …!! هل هناك دار نشر تعمل حتى الواحدة؟! ..”
هز لي رأسه “نعم.. هم ينتظرونك بهذا الموعد.. ؟”
نظرتُ له مُتعجبًا.. ” ما هذا الذي تقوله!!.. أين محمود.. أخبره أني أريد أن أقابله “
وضع يده اليمنى على الباب مُتأهبًا..
” السيد محمود.. مريض ولا يستطيع مقابلتك الآن.. ولقد أخبرني أن أقوم بإعطائك الكارت وقد فعلت “
شعرت بالإهانة مما يحدث ومن طريقة محادثة هذا الخادم لي، انتفض صدري غضبًا وكدتُ أفتكُ بالخادم ولكن عندما لمحت جزء من رأس محمود وهو يتلصص على محادثتنا من خلف أحد الحوائط هنا أدركت بأن ما يحدث الآن هو بأمر مباشر من محمود.. امسكتُ الكارت بيدي وأنا أرغب بتمزيقه ولكن تراجعت بالحال وأنا مُنكس الرأس من تهرب صديقي أو من كنت أعتقد بأنه صديقي من مقابلتي، فأعطيت ظهري للخادم الذي اغلق الباب سريعًا بعدها وهممت بالهبوط على درجات السلم وانا أكاد أنفجر غيظًا.. لم اشعر بنفسي إلا وأنا أقترب من الحي الذي أسكن به.. لقد مر الوقت كالبرق فكنت أحاول بشتى الطرق أن أجد أي مبرر لما فعله محمود معي، فهو شخصية طيبة ومتواضعة ولم أعهد عليه مثل هذه الأمور من قبل وأيضا إذا كان يريد التهرب مني من البداية فلماذا جعلني أتي إلى منزله ولماذا أعطاني هذا الكارت.. هل ينوي أن يقوم بإحراجي.. هل سيقوم بمزحة علي بشكل ما.. بالتأكيد هذا سيحدث.. هل هناك أحدا يقوم بتحديد موعد متأخر مثل هذا لمقابلة عمل!! إنها مزحة بالتأكيد.. أنه يسخر مني.. لم أجد حل سوى أنأفرغ ما بجعبتي مِن ضيق وحيرة مِن فعل محمود على زوجتي وأشكو لها عن ما يَجُلْ بخاطري حينها.. وهنا وللمرة الأولى منذ زمن بعيد لم تجادلني زوجتي واتفقت بموقفها معي على سوء فعل محمود تجاهي وهي تسبه وتلعنه وتتباكي على ثمن الوقود الذي أحرقناه والجهد الذي بذلناه بدون جدوى، أمسكت كارت دار النشر المصنوع بجودة فارهة وبطريقة مثيرة تشدُ العين وبملمسٍ أقرب إلى المعدن الغريب، وهي تهز رأسها بأسى وتخبرني بصوت عالي بأنه ليس من المنطقي أن يكون هناك موعد مقابلة الواحدة ليلًا وبالطبع سألتني عدة مرات ” هل سمعت الموعد من الخادم جيدًا.. هل أنت متأكد بأنه الواحدة ليلا وليس ظهرا!! ” ..
فأكدتُ عليها مرارًا وتكرارًا اني قد سألت الخادم مثلها بدوري وأجاب بنفس الإجابة .. الواحدة ليلًا.. وضعتْ الكارت على المنضدة أمامنا واستمرتْبسب محمود وعائلتها وجميع من مت إليه بصلة فييوم من الأيام.. ثم قامت بالربت على كتفي ومواساتي بكلماتها الرقيقة الحانية لخمسة عشر دقيقة متواصلة نجحت خلالهم بتغير حالتي النفسية وطلبت مني أن أذهب الي النوم ولكنِ اخبرتها بأن تَسبقني وسوف ألحق بها فيما بعد وجلست على الأريكة أشاهد التلفاز فأنا أعلم بأني لن أنام هذا اليوم أبدًا كعادتي عندما أكون بحالة نفسية سيئة، أو هذا ما كنت أعتقده حتى استيقظت على صوت هاتفي يصدح بنغماته بصوت صاخب فاعتدلت بجلستي لأجد نفسي نائم فوق الأريكة وفوق جسدي غطاء النوم يبدو أن زوجتي وضعته فوق جسدي ولم ترغب بإيقاظي ابتسمت من لفتتها الجميلة تلك، ولكن لم يُمهلني الهاتف مهلة للتفكير بها وهو يصيح بنغماته ذاعرًا فمددت يدي والتقطته سريعًا من فوق الاريكة وشاهدت بشاشته أسم الطالب لأجد مكتوب عليها B&H .. اندهشت من هذا الأسم الموضوع أمامي فأنا لا اعلم أحدا أعلمه بهذا الاسم وجعلني فضولي افتح الخط سريعا.. وأثناء ذلك وجدت زوجتي قادمة من الداخل وهي تحمل ملعقة الطبخ بيدها ويبدو أنها سمعت الهاتف وأتت لإيقاظي تحدثت بالهاتف وأنا أبادلها النظرات.” الوو”
وهنا سمعت صوت فتاة ناعم ذو لكنة شامية واضحة تتحدث إلي ” مساء الخير سيدي.. “
اجبتها مسرعا ” مساء الخير.. “
” معك حسناء بداري، السكرتيرة التنفيذية لمجموعة B&H. نحن نتصل بك للتأكيد على موعدك معنا اليوم.. “
اندهشتُ وانعقد حاجبي وأنا أحاول أن أعيد استعادة وعي جيدًا.. من هؤلاء وموعدماذا؟!!”..
هنا لقطت عيني سريعا الكارت الموضوع فوق المنضدة ورأيت أسم مجموعة B&H وعلى الفور و بثانية واحدة كنت قد استجمعتُ كل التفاصيل من جديد، إنها دار النشر التي طلبت من محمود إسماعيل أن يُعرفني بهم، أنهم يتصلون بي،هل يعقل أنه كان صادقًا بكلامه، إستجمعتُما تبقى لي من لباقة وقمت بدفعها بفمي مرة واحدة لأستدرك الموقف سريعا ..
” اهلًا بك يافندم .. اهلًا بك .. لقد أسعدتم يومي بمهاتفتكم لي هذا اليوم تالله..”
جاوبتني بصوت عذب يلين القلوب الصلدة.. “تأبرنا والله وتسعدنا رؤياك.. سوف ننتظر حضرتك بالموعد أن شاء الله.. “
“بالطبع.. بالطبع فسوف أحضر بالتأكيد.. “
” إذن سوف ننتظرك بالموعد أن شاء الله “
“حسنا.. شاكر لكم وأسف على تعبكم المسبق معي “
” تعبك هو راحتنا ورضاك هو غايتنا ياسيدي “
كلماتها تلك بصوتها العذب جعلني أكاد أتنهد من فرط الشوق لرؤيتها ولكن عندما تذكرت وقوف زوجتي بأدوات المطبخ فوق رأسي عدت إلى رشدي في الحال وتذكرتُ أمرًا هامًا كاد يغيبه صوت الحسناء من رأسي.
” أردتُ أن أتأكد فقط من حضرتكم بشيء ما “
” تفضل سيدي “
” هل موعدنا هو اليوم بالواحدة؟”
” نعم ياسيدي.. “
” الواحدة ليلًا.. أليس كذلك ؟!”
” نعم ياسيدي.. هل هذا الموعد لا يناسبك …؟”
“لا.. لا.. أنه يناسبني بالتأكيد.. كنت أتأكد منك فقط “
” حسنا بإنتظارك سيدي.. مع السلامة”
” مع السلامة “
أغلقتُ الهاتف وأنا أتعجب وأنظر إلى زوجتي وأحدثها منبهرًا.. ” أنها دار النشر الخاصة بمحمود.. لقد قاموا بتأكيد موعدي معهم.. “
زوجتى كانت مندهشه أكثر مني وأتت مسرعة لتجلس على الاريكة بجواري “ماذا.. هل اتصلوا بك.. إذن محمود صديقك لم يكن يكذب عليك !!”
“نعم.. والأغرب مِن ذلك أن موعدي معهم بالفعل بالواحدة ليلًا.. “
“لايهم.. لايهم.. حتى ولو كانت الخامسة فجرًا، أنها فرصة متميزة ولا تعوض.. “
اجبتها مبتسمًا فرحًا..
” نعم.. أنها فرصة عظيمة أتمنى من الله أن تُعيدني إلى مجدي السابق.. يجب أن تُعدي لي بعض الملابس الفاخرة التي تُناسب هذا اللقاء..”
نظرت لي نظرة مغايرة للموقف وسألتني بسرعة ” هل من كان يُحادثك على الهاتف الآن فتاة ؟!!”
ابتلعت ريقي بعفوية قلقًا من فحوى السؤال المُلغم.. ” نعم.. أنها السكرتيرة التنفيذية للشركة “
ألفحتني بعدة أسئلة نارية بسرعة وبلهفة “ما أسمها؟ هل هي جميلة؟ هل ستحضر معكم المقابلة.. هل ستتواجد فتاة محترمة مع اشخاص بمفردهم بالواحدة بعد منتصف الليل…!!”
هنا علمت أن الأمر إذا استمر أكثر من هذا فسوف يُسفرُ عن مأساة إغريقية جديدة يتحول بها بطل القصة الرئيسية في النهاية إلى ضحية هامشية بسبب صراع سطحي بين آلهة الحب والغيرة، وبسبب قراءتي الكثيرة لتلك المأسي الدرامية لا أرغب بالتأكيد أن أشاطر مصير أبطالها ففعلت ما يفعله كل رجل كامل الرجولة، قوي الشكيمة عتيد المراس بهذه المواقف، ألا وهو محاولة إستجداء رضاء زوجتي فتحاشيت النظر إلى عينها وأدرت بوجهي إلى الجهة الأخرى كي لا تستشف ملامحي فالزوجات بعد عدة سنوات مع أزواجهن يصبحن محققات بارعات كشارلوك هولمز وقارئات ملامح ذات فراسة تُضاهي فراسة أعاتيد العرب قديمًا، ولهذا قفزت سريعا من الأريكة وتوجهت جهة الحمام ..
“أنا مثلي مثلك لا أعلم شيء ياحبيبتي، سوف أخبرك بكل شيء عندما أعود، سوف أستحم الآن وأريد أن أتناول الإفطار”..
ودلفت مسرعًا مُتواريا بداخل الحمام حتى لا أعطي لها فرصة للإنقضاض علي بسيل من الأسئلة الغيبية عن شكل ومواصفات والحالة الإجتماعية لأي أنثى أمر بها بطريقي، مر الوقت سريعا وظللت جُل يومي أحضر لمقابلتي المصيرية تلك وبنفس الوقت أتحاشى أسئلة زوجتي الملغمة عن السكرتيرة التي يخيل إليها عقلها المريب أن تلك الفتاة سوف تراني فتي أحلامها بهذه المقابلة السريعة وسوف نتزوج بالحال واتخلى عنها وعن حياتي المُستقرة منذ اثني عشر عامًا، ولهذا تركت المنزل سريعًا في حوالي الحادية عشر والنصف مساءًا وتوجهت إلى مقر الشركة وأثناء توجهي لمكان المقابلة قمتُ بالإتصال برقم محمود إسماعيل لمحاولة شكره والإستفهام منه عن طبيعة تلك الدار وأصحابها ولكني وجدت هواتفه مغلقة دائمًا ومازال فعله هذا يُثير بداخلي الحيرة لماذا لا يريد أن يقابلني أو أن يتحدث إلي، هل يخشى أن يتم رفضي بهذه المقابلة وأن ألقي عليه باللوم،حتى ولو حدث هذا فلن ألومه ، يكفي أنه قد قام بتلك المحاولة من أجلى حتى وأن لم تنجح فأنا لا أنسى الجميل أبدًا وأي شخص يساعدني حتى ولو بكلمة أضع معروفه فوق رأسي ما حيت،جنبتُ أفكاري عن محمود إسماعيل الآن مؤقتًا عندما وجدت نفسي بالقرب من مقر الشركة الذي كان ضخما وفخما بآن واحد وجدت مكان كبير بالقرب من المبنى مخصص لركن السيارات ولنتصدقوا مدى فرحتي بهذا الأمر فالقاهرة أصبحت تضيق بسكانها فلانجد مكان لموضع قدم فما بالك بمكان تضع به سيارتك ..
نظرتُ لساعتي فوجدتها مازالت الثانية عشر وأربعين دقيقة، لقد أتيت أبكر من موعدي بقليل، يبدو أن مقابلات العمل ليلاً أفضل بالفعل في أماكن مزدحمة مثل القاهرة، جلستُ بسياراتي أنتظرُ مرور الوقت وعند الواحدة إلا خمس دقائق ترجلت من السيارة متجهًا إلى مبنى شركة B&H ودلفت إلى المبنى وما أن قابلني عامل الأستقبال وافصحتُ عن إسمي وموعدي فوجدتهم يصلوني إلى المصعد بأنفسهم بترحاب شديد، وصعدت المصعد مع بعض الأشخاص والموظفين وكم كانت دهشتي عندما وجدت أن المكان يَدب كخلية نحل والجميع يعمل بنشاط شديد حتى إذا كان ذلك بعد منتصف الليل، حان دوري في المصعد وتوقفت عند الطابق الرابع واتجهت إلى مكتب ضخم مكتوب عليه اسم دار النشر B&H وتفاجئت فيما بعد بأن دار النشر هي مجرد جزء صغير من مجموعة أعمال شركة B&H على الرغم من أن دار النشر تحتل تلاثة طوابق بالفعل من المبني المكون من سبعة عشرطابق، دلفت إلى المكتب وتنقلت من موظف إلى موظف لعدة دقائق حتى وصلت إلى السكرتيرة التنفيذية ” حسناء ” التي قفزت مبتسمة وهي تصافحني بترحاب شديد، حاولت أن أعرفها بنفسي فأجابتني أنها تعلم من أنا فهي التي قامت بالبحث عني وعن بياناتي بعد أن رشحني محمود إسماعيل لهم، لم تمهلني لكي أقوم بالرد عليها حتى وقامت بإدخالي إلى مكتب مقابل لها وحينما دلفت إلى هذا المكتب لم اجد أحدًا بداخله فأجلستني على المقعد المقابل للمكتب ثم أخبرتني بأن المدير بإجتماع سريع مع بعض المؤلفين الأخرين وسوف يعود لمقابلتي،أومأتلها برأسي متفهمًا ومن ثم طَلبتْ أن تعلم ما أرِدْ شربه فطلبت كوب من القهوة السادة التي ألفت طعمها بعد أن قررت الإستغناء عن السكر طبقا لحميتي الجديدة التي صنعتها زوجتي عندما طرق بشدة المرض بابي،هنا سحرتني حسناء بإبتسامتها المشرقة ولهجتها الشامية الرائعة واستأذنتني بعد ذلك لأن لديها العديد من المهام فهي السكرتيرة التنفيذية للمجموعة بأكملها وليس لدار النشر فقط ولهذا فهي تتنقل من آن لأخر بجميع طوابق المبني أومأت لها برأسي وأنا أخبرها بأني أعلم حجم مشاغلها فرفعت يديها البيضاء النضرة وهي تُشير إلي بعلامة الوداع وأصبحت بمفردي مع رائحة العطرالخلابة التي تركتها خلفها وأخذت بتلابيبي ، طردت تلك الأفكار المثيرة التي غزت عقلي بسبب رائحة هذا العطر وظللت أنتظر قدوم المدير الذي أجهل إسمه حتى الان وأخذت أحدق بالمكتب حولي بفضول وأنا أطالع الأثاث الفخم والديكور المُتكلف على هيئة مكتبة ضخمة مليئة بالكتب المشهورة المتموضعة بأشكال وألوان ثرية تسيل لعاب القارئ النهم ووجدت على مكتب المدير نسخ بعض الكتب الأصلية والمخطوطات القديمة النادرة الوجود، لم أصدق عيني مما أشاهده فأقل نسخة من تلك النسخ يتعدى سعرها الآف الدولارات الآن.. والكثير منها موجود على مكتب شخص واحد، هل من الممكن أن تلك الكتب هي مجرد نسخ مُقلده، ولكن شكل الكتب ورائحتها من بعيد تدل على أنها غارقة بالأصالة والقدم، هل يستطيع البشر تقليد كل شيء الآن حتى أصالة وقِدم التاريخ، جلست مرتبكًا مُتعرقا أحاول التركيز والسيطرة على أعصابي.. قارئ مخضرم مثلي لا يستطيع أن يكبح نفسه أمام كتب نادرة مثل التي أمامه، لقد تداركت شعور آدم الآن وهو يرى الفاكهة المحرمة بين يدي حواء وتتناولها بإستمتاع أمامه، شيء مثير للدهشة بحق، لا ندري لم طعم أي شيء محرم يكون ألذ بكثير من الشيء الطبيعي، هل الطبيعة البشرية لها دَخل بذلك، هل نحن بمجملنا خطأئين ولهذا نميل إلى الخطيئة ونشعر بلذة إرتباكها أم أن الشيطان ووسوته هي ما يُخِيلْ لنا ذلك، هل هي وسوسة شيطان بالفعل أم الجزء الشرير من نفسي، لا أدري مَن بالضبط يُخيل لي بتلك اللحظة أن ألتقط تلك الكتب النادرة وأهم بالفرار من ذلك المكان بالحال، قمت على الفور بلطم وجهي وأنا أحاول السيطرة على أعصابي، يجب أن أعود إلى رشدي ماهذا الحمق الذي دار برأسي الآن، تبسمت وأنا أنعت نفسي بالغباء لإستسلامي لتلك الوساوس الحمقاء وحمدتُ الله أني عدت إلى رشدي وأثناء ذلك وجدت نسخة من تلك الكتب النادرة بين يدي فيبدو أن عقلي يُفكر بشئ وجسدي يُفكر بشئ مغاير له تماما نظرت إلى الكتاب بين يدي وأنا أكاد أجن ما الذي أفعله، كيف أقوم بالأطلاع على ممتلكات شخص دون إستاذنه ولكن رائحة الكتاب القديمة ومَلمسه الذي أكل الزمان عليه وشرب وعبق التاريخ الذي نقع به جعلني افتحه على الرغم عني وأتصحفه ولم تخطئ عيني بالحال بأن تلك النسخة هي نادرة بالفعل، كتاب لاتيني قديم مكتوب بخط اليد ، أنا لا أعلم اللاتينية بالطبع ولكن أعلم بعض المفردات المشهورة منها والأرقام بالتأكيد ولهذا لم أخفي فرحتي عندما تَلمست ذلك الكتاب وأخذت أتفحصه بعناية أحاول معرفة نوعه والحقبة التي صدر خلالها ، أثناء إنغماسي بهذا الأمر لم أفَقْ إلا على صوت شخص يقف بجواري ..
” يبدو أنك كاتب مُتمرس بالفعل.. فلم تستطع أن تكبح نفسك أمام هذه الكُتب الرائعة.. “
أصبتُ الخوف الشديد والربكة بذات الوقت ووقفت مذهولًا وأنا أطالع رجل بمنتصف الخمسينات شعره مصبوغ بالأحمر بعناية ويرتدي ملابس سوداء فارهة وملامحه أجنبية بوضوح ويتحدث اللهجة المصرية المُختلطة باللهجة الشامية والخليجية معًا.. يبدو أنه أخذ من كل بستان زهرة كما يُقال، مد يده إلي ليصافحني..
” أنا أسف على إفزاعك يبدو أنك قد كنت مُنهمكا بقراءة الكتاب، أنا دارين راندولف مدير النشر بدار B&H .. “
صافحته بحرارة شديدة وأنا أحاول أن أخفي إرتباكِ
“أهلًا.. أهلًا سيدي.. أنا أسف على تَصفحي لكُتبك دون إذنك.. “
جلس على المكتب سريعًا وهو يشير إلي أن أجلس وحدثني بحميمية..
“لا هذا دليل قوي على إنك من الكتاب الموثوق بهم، لأنك تدرك جديًا قيمة هذه الكتب النادرة..”
جلست على المقعد وأنا أفكر هل يعقل بأن وضعهم هذه الكتب النادرة بهذه الطريقة هو مجرد اختبار لي.. هنا قام على الفور بالتحدث إلي وهو يبتسم.. “
نأسف على اختيار هذا الوقت المـبكر للمقابلة.. أقصد المتأخر.. أنا لا أدري هل سيكون هذا مبكر أم متأخر لك.. ولكن أعتذر لك على أي حال “
هنا اغتنمت هذه الفرصة وسألته عن هذا الموعد الغريب ” هل هناك سبب ما لإختيارك هذا الموعد سيدي؟”
ابتسم وهو يُرجع ظهره على المقعد مرتاحًا “نعم.. هناك سبب وجيه للغاية.. أنا لا استيقظ مبكرًا “.. ثم ضحك وأكمل حديثه ولم يعبئ بردة فعلي الباهتة على دعابته السخيفة تلك..
” لقد أخبرنا السيد محمود إسماعيل برغبتك بالإنضمام إلى مجموعتنا، و وجودك أمامنا الآن في الواحدة ليلًا دليل على رغبتك بهذا أو لأصدقك القول إستماتتك على العمل لدينا “
شعرت بالغضب الشديد يجتاحني من كلماته تلك وغلت الدماء برأسي ولكن حاولت أن أتمالك نفسي.. ولكن لم أستطع فقمت من فوري وأنا أحاول إنتقاء كلمات حادة غير جارحة تُنقص من مكانتي الأدبية وقيمتي الشخصية فلم أجد ولم تُسعفني سرعة بديهيتي بهذا الأمر فوجدتني أتلعثم ببعض الكلمات قبل أن أخبره بضيق..
” أنا لا أستميت للعمل لديكم.. لقد أخبرني محمود إسماعيل بأنكم مجموعة محترمة ومهنية ولهذا رغبت بأن نتعاون معًا ليس إلا.. ولكن لم أتي إلى هنا لكي تقوموا بالسخرية مني والتقليل من قدري “
هنا اعتدل دارين بجلسته وهو يُشبك أصابع يديه امامه..
” أعذرني على صراحتي التي تعتقد بأنها وقاحة سيدي.. أنها عادات ايرلندية بسبب نشأتي لم أستطع أن أتخلص منها بسهولة، تستطيع أن تغضب لكرامتك وتَصيح وتذمجر وتدفع الباب وتخرج من هنا إلى الأبد وعندما تجلس مع أصدقائك تخبرهم بكل مرة أنك رفضت العمل معنا لأننا وقحين وغير مهذبين وأصدقائك سوف يوافقوك القول وهم يَمطون أفواههم أسفًا على ما حدث لك ومن ثم بعد ذلك سيسخروا منك وينعتوك بالكذب وأنك تلقي بفشلك على الأخرين.. “
شعرتُ بالغضب أكثر فصرخت به على الفور ” أنت شخص وقح وسليط اللسان وأنا أسف أن ضيعت وقتي معك “
” هنا تابع دارين حديثه ” تستطيع أن تخبرهم أيضا أنك قلت لي تلك الأشياء بجلستك مع أصدقائك بالمستقبل إذا انصرفت غاضبًا من أمامي الآن.. أو من الممكن أن يكون الأمر مختلفًا تمامًا وكليًا إذا استمعت لحديثي لدقائق اخرى لتعلم لماذا أخبرتك بهذه الكلمات “
وقام على الفور بدفع ورقة مقلوبة أمامه ووضعها أمامي وهو يُحدثني ” اقرأ هذه الورقة بتمعن ومن ثم سنكمل حديثنا “
وقفت أنظر إليه ومن ثم إلى الورقة وسحبتها من أمامه بعنف وعلى مضض ونظرت بداخلها لأجدبها ماجعلني مصدومًا أكثر.. فقمت بإعادة قراءة الورقة أمامي عدة مرات..
هنا ابتسم دارين مُتشفيًا بي وهو يتكئ على المقعد ويتحرك من خلاله يمينا ويسارا..
” نعم.. هذه هي بياناتك كاملة.. عدد المبيعات الكلية والجزئية لأخر ثلاث أعمال من تأليفك والأموال التي تقاضيتها خلال تلك الفترة وتوقعات مبيعاتك من قِبل دور النشر وماحققته فعليًا من مبيعات.. “
نظرتُ إليه مصدوما مِن وصوله إلى تلك المعلومات الحساسة من قِبل دار نشر أخرى منافسة له على الرغم من أني أنا شخصيًا لم أطلع على تلك المعلومات مِن قبل “
تابع دارين حديثه مُبتسما ” كما ترى نحن نعلم عنك كل شيء ومعي خمس ورقات أخرى بهم خلاصة سريعة عن حالتك الاجتماعية والمالية و وباقي مبيعاتك السابقة، مع توصيات من قبل فريق التسويق لدينا لجعل مبيعاتك تلك تصل الي 1700% بالمئة ويصبح لك سيط كبير في بقاع أخرى من العالم وليس هنا فقط”..
هنا تهلل وجهي فرحًا على الرغم عني، هل هذا يعني أنهم يرغبون بالعمل معي بالفعل، وهل سوف أحقق مبيعات بتلك النسبة، هل هذا معقول.!!”
وجدتُ نفسي أجلس على المقعد رغمًا عني وقد ذهب غضبي وحل محله رجائي بأن يكون حديثه هذا صحيحًا فلم أتردد على الفور بسؤاله هذا الأمر “هل بالفعل أستطيع أن أحقق تلك النسبة الكبيرة من المبيعات، هل تستطيعون تحقيق هذا، أنا لا أصدق، أنتم لا تسخرون مني أليس كذلك ؟!”
ضحك دارين سريعًا..”لا.. نحن لا نسخر منك، نحن قادرون على فعل هذا الأمر، وليس كذلك فقط، بل أننا سوف نعطيك أرباح مقدمة عما نسبته 1700% بالمئةمن مبيعاتك السابقة عند إتمام التعاقد، سوف يصلك شيك بمثل هذا المبلغ.. “
وقام بإخراج شيك نقدي أمامي عليه إسمي وبضعة أرقام لم أكن أن أتخيل بيوم من الأيام أن يوضع إسمي بالقرب منها ولكنه للأسف كان ليس عليه أي إمضاء، رفعت الشيك بين يدي وأنا أكاد أطير فرحًا،لا أصدق مايحدثأمامي ، يكاد بريق الأرقام التي على الشيك تعمي عيوني وقلبي يكاد ينفجر فرحًا ،إرتفع الإدرينالين والدوبامين وجميع هرمونات السعادة الأخرى المعروفة منها والغير معروفة تدفقت بعروقي جعلت كل جزء من جسدي ينتفض بسعادة حتى أطرافي، قدمي التي إرتعشت على الرغم عني وأصابع يدي التي إهتزت وهي تحمل الشيك بين أناملي ، وهنا قطع دفقات هرومانات السعادة فورًا وضع دارين يده حول يدي التي تحملُ الشيك وهو يبتسم بخبث .. ” ولكن “
هنا إقتنعت على الفور بأن هناك أمرًا بهذه الصفقة، فالوضع جيد أكثر مما ينبغي ، جيد لدرجةٍ تشعرك بالريبة ، لم أستطع أن اخفي خيبة أملي بكلماتي التالية التي خرجت من فمي سريعًا ..” ولكن ماذا ؟!!”
هنا ترك يدي وارخى ظهره على مقعده ورفع سبابته.. ” هناك شروط للعمل لدينا، يجب أن تكون على دراية بها جميعًا وموافقًا عليها لأنكإذا قمت بتوقيع هذا العقد لا تراجع بعده أبدًا.. سوف نُنفق أموالًا ومجهودًا لا تستطيع أن تتصوره، ولن نسمح بأي حال من الأحوال أن يضيع هذا المجهود وتلك الأموال هباءً منثورًا بسببك نهائيًا.. “هنا شعرت بالقلق من نبرة حديثه فوجدتني أبتلع ريقي دون أن أشعر وأنا أتابع كلماته المتجردة كليًا من أي شكليات أو مجاملات أو ردود دبلوماسية وتابع قوله.
.”ولهذا يجب أن تعلم أن بحالة إنضمامك لمجموعتنا فسوف نضمن لك إيفاءنا بكل حقوقك وأيضًا نتوقع منك أن تقوم بتنفيذ كل واجباتك “
هنا لم أفهم مغزى حديثه، فعند الإتفاق بين أي جهتين المتوقع والطبعي أن تقوم كل جهة بتنفيذ ما أتفقت عليه هذا بالتأكيد مايحدث دائمًا فلماذا يصيغ الأمر على أنه شيء جديد أو خارق للعادة، فقمت على الفور بتأكيد كلامه هذا ” بالطبع ياسيد دارين.. ” ..
اللعنة لقد اخطئت بنطق اسمه ولكنه لم يٌعِرْ هذا أي إهتمام فقمت بتكملة كلامي مسرعًا ملاحقا لهذا الخطء الشنيع الذي فعلته.. ” أنا رجل أحترم تعاقداتي ولا أخالفها أبدًا وأيضًا أتوقع منكم أن توفوا بكلامكم بالأخص الجزء المتعلق بدفع المبلغ المقابل للألف بالمائة الذي تعهدت بها الآن “
اومأ برأسله لي.. ” لا تقلق هذا سوف يحدث بالتأكيد، عندما تتعاقد معنا لن تنشغل بمستوى مبيعاتك أو نقودك أبدًا، لن تنشغل بأي شيء سوى وظيفتك الطبيعية إلا وهي الكتابة فقط ولا شيء أخر.. “
هنا لم أتاملك نفسي من السعادة، فهذا أقصى ما كنت ارغب به، أن أنشغل بطبيعة عملي فقط وهي الكتابة ولكن كان العكس الذي يحدث دائمًا فكنت مُطالبًا بالتكفل بمهمة الكتابة وأن أتحمل مسؤولية الدعاية والتسويق والتوزيع لما أكتبه أيضًا فقد قامت دور النشر هذه الأيام بحمل ثقل وظيفتها على الكاتب وأصبح شغلها الشاغل فقط هو عملية إمتصاص النقود فقط من وراء هذا الكاتب دون تحمل أي من مهامها تجاهه.. ولهذا لم أصدق نفسي عندما وجدت تعهد هذه الدار بأن تتكفل بوظيفتها الطبيعية وتتركني لوظيفتي الطبيعية ولكن لا أخفيكم سرًا لقد تشككت بهذه التعاقدات فعندما أتعامل مع أي جهة جديدة أسمع كلامًا معسولاً ولا أجد أي فعل من هذا بعد ذلك ولهذا فأنا سوف أتمسك بأخذ هذا المبلغ الذي تعهدوا به أولًا وإذا صدقوا بباقي وعودهم فسيكون هذا شيء عظيمًا وإذا لم يصدقوا فأكون قد أمنت نفسي ولا يهم الأمر بعد ذلك، وعلى الفور أخبرتهم بموافقتي على شروطهم ولكن بعد أن اقراء العقد جيدا أولاً..”
رفع دارن كفيه أمامي ببطء وثقة.. ” لدينا لايوجد عقود.. هناك فقط شروط “
ما الذي تعتقد سوف يحدث بعد ذلك في رواية همس الظلام؟ ✍️ اكتب ماذا تعتقد في التعليقات حتى تقارن توقعاتك فيما بعد بما سيحدث! 👇